كثيراً ما يقال «سورياليّ» لوصف الغرائبيّ والغريب، وهو ما قد يكون صحيحاً، لكنّ المؤكّد أنّ السورياليّة أكثر من هذا.
فالحركة، التي بدأت «رسميّاً» عام 1924 في باريس، تعود مصادرها المبكرة إلى الحركة الدادائيّة. ذاك أنّ الحرب العالميّة الأولى، بوصفها رَضّة عميقة أصابت المثقّفين الأوروبيّين، أسّست الحركتين تباعاً. فإذا كان لحكومات توصف بالعقلانيّة أن تُحدث كلّ هذا الهول، فالمعنى أنّ ثمّة خراباً يضرب العقل ويكسر اللغة بوصفها أداة العقل الأولى.
هكذا حجزت الحركتان مقعديهما في تاريخ اللاعقلانيّة الغربيّة. لكنْ لئن بقيت الدادائيّة حركة هدم وتحطيم، زعمت السورياليّة لنفسها امتلاك محتوى إيجابيّ: فهي تناهض البورجوازيّة والكاثوليكيّة وتدين الوطنيّة و»الاستبليشمانت»، رافعةً راية السلوك الفضائحيّ، لكنّها أيضاً موديل حياة ومحاولة لتغيير للعالم، ما يجعلها فلسفة لا مجرّد مدرسة في الفنّ والأدب.
المؤكّد أنّ السورياليّة، أو ما فوق الواقع، حسب التسمية التي سكّها منذ 1917 الشاعر والكاتب الفرنسيّ غيوم أبولينير، طريقة جماليّة في التعامل مع رَضّة الحرب ومع الكيفيّة التي تتحوّل بموجبها معاناة الحرب إلى إبداع. وفي هذا لعب التأثّر بسيغموند فرويد، الذي كانت تذيع نظريّاته في أوروبا، دوراً حاسماً.
فحول الكاتب والشاعر والمنظّر الفرنسي أندريه برِتون تحلّقت مجموعة من المبدعين الذين يستكشفون طرقهم الجديدة. ومأخوذاً بفرويد، رأى برِتون ورفاقه أنّ العمل يأتي «تلقائيّاً» حين لا يتدخّل الوعي فيه، فيصلنا صورةً شفّافة عن الحال النفسيّة الحقيقيّة.
لقد بدت نظريّة الأحلام الفرويديّة مادّة استلهام شديدة الملاءمة للمشروع السورياليّ، إذ الأحلام تعبير مباشر عن اللاوعي، رغباتٍ ومخاوفَ وأفكاراً، بحيث تتقدّم العبارات المجازيّة والاستعارات بوصفها إحالات مداوِرة إلى مشاعر وتجارب.
إذاً أراد السورياليّون، عبر الكتابة والرسم «الأوتوماتيكيّين»، الوصول إلى الأجزاء اللاواعية من العقل وكشف «الطبيعة الفعليّة للإنسان»، حتّى أنّ بعضهم استخدم للغرض هذا المخدّرات والتنويم المغناطيسيّ. ولأنّ المشهد الذي ينجم عن جمع المتضادّات لا يُرى إلاّ في الحلم، أبدت رسوم الأحلام عند السورياليّين، خصوصاً أحلام الإسبانيّ سلفادور دالي المرسومة، خليطاً لاعقلانيّاً من المواضيع التي تحظى بمعانٍ رمزيّة أغلبها جنسيّ المضمون. وهذا الخليط من عناصر متضادّة أطلّ في لوحات البلجيكيّ رينيه ماغريت، أو في الرسوم الميتافيزيقيّة للإيطاليّ جورجيو دو شيريكو بساحاتها ومبانيها.
هكذا أنجز السورياليّون تمارين صعبة تساعدهم على بلوغ اللاوعي، وكان الأهمّ بين تلك التمارين التلقائيّةُ (automatism)، أي الارتجال الذي لا تسبقه خطّة أو تفكير، ما يعني استبعاد عقلنا الواعي والتخلّص من تطلّبنا للنظام وللمعنى، والتركيز في المقابل على الغريزة والحدوث الفوريّ لما يطرأ. فحين نغمض أعيننا عن العالم وننكفىء عميقاً إلى دواخلنا، تأتي عناصر العمل الفنّيّ والأدبيّ صوراً دقيقة تمّ تنظيفها من الواقع.
وعن هذا نشأ مبدأ التجاوُر (juxtaposition) قبل أن يستحوذ عليه لاحقاً الما بعد الحداثيّين. والتجاور جمعُ مواضيع لا تتجاور في الواقع، ما يخلق تبايُناً بصريّاً، كما يخلق سخرية وقلقاً أو ربّما اضطراباً عند الناظر والقارىء. وعن التجاوُر نشأ التوليف (assemblage) بوصفه جمعاً لأشياء مختلفة في رسم أو منحوتة ممّا كان هو أيضاً جديداً حينذاك. وجعل كثيرون من السورياليّين
يرتّبون مواضيعهم بما لا يُنتج أيّ معنى عقلانيّ، فوضع دالي سرطان البحر (لوبستر) على التليفون، وأُدخلت تعديلات صغرى على سِلع الاستخدام اليوميّ ذي الكلفة الرخيصة بما يعكس الإنتاج الصناعيّ الموسّع عهدذاك، ما أظهرَها غرائبيّة أو مضحكة. هكذا ألصق الألمانيّ ماكس إرنْست، في عمله «انتصار السورياليّة»، أشكالاً ملوّنة يخرج منها وحش صغير، كما سمّى ماغريت غليونه «هذا ليس غليوناً»، قاصداً أنّه مجردّ صورة للغليون. واعتُبرت أكثر اللوحات تمثيلاً للسورياليّة لوحة دالي «إلحاح الذاكرة» حيث تبلغ خيانة الصور أقصاها من خلال الساعات الذائبة والملتوية، تاركةً للخِدَع البصريّة أن تغدو حالة هذائيّة كمّلها دالي بشكله ومظهره وبعض مأثوراته الغريبة. كذلك انضمّ الإسبانيّ بابلو بيكاسّو إلى السورياليّة في سنواتها الأولى، ما أسّس فيه حساسيّته حيال البدائيّ والإيروسيّ والعنيف.
لكنْ إذا كان غرض فرويد الأصليّ علاجيّاً، فالسورياليّون لم يعبأوا بالشقّ العلاجيّ من التحليل النفسيّ، ليقتصر اهتمامهم على استكشاف الكامن الإبداعيّ في البشر. وبدوره لم يتجاوب مؤسّس التحليل النفسيّ مع دعوة برِتون حين طالبه بكتابة مقدّمة لأنثولوجيا وضعها عن الأحلام. وإذ قرّر كبير السورياليّين، في 1921، أن يلتقي فرويد في فيينا، أبدى الأخير قليلاً من الرغبة والاكتراث.
بيد أنّ السورياليّين شاؤوا أن يعطوا نظريّات التحليل النفسيّ تعبيراً شعريّاً من خلال الفنّ فأنتجوا الكثير من الأعمال الرائعة، متأثّرين بلائحة طويلة ضمّت أبولينير ورِمبو وبودلير ودو ساد والكاباليّة اليهوديّة، فضلاً عن نسبيّة أينشتاين والفنّ البدائيّ وسوق السلع المستعملة وسواها من المصادر.
والحركة لم تكن سياسيّة، وفي بداياتهم ناهض السورياليّون الثورة الروسيّة مثلما كرهوا المجتمع البورجوازيّ. لكنّ نزوعهم التمرّديّ الذي لم يخلُ من الغموض والتعميم أوجد بعض التقاطع، العريض أحياناً، مع مبدعين شيوعيّين وماركسيّين. هكذا غدا كثيرون من السورياليّين يماهون أنفسهم مع الشيوعيّة، وفي 1927 انتسب إلى الحزب الشيوعيّ الفرنسيّ برتون والشاعران بول إيلوار ولويس أراغون. بيد أنّ برتون وإيلوار طُردا في 1933 تعبيراً عن الاختلاف حول «الأدب البروليتاريّ»، وإن عاد ثانيهما إلى الحزب لاحقاً. هذا وكان النموذج الذي يُوطّد في الاتّحاد السوفياتيّ آنذاك يطرد كلّ احتمال حول تقبّل أيّ من النموذجين الشيوعيّ والسورياليّ للآخر.
لكنْ في 1938 تشارك برتون وليون تروتسكي، الشيوعيّ المنفيّ والمنشقّ، في كتابة «مانيفستو لأجل فنّ ثوريّ حرّ»، وإن وقّعه الرسّام المكسيكيّ الشيوعيّ دييغو ريفيرا بدلاً من تروتسكي. وقد انتهى البيان محدّداً «أهدافنا» بأنّها:
«استقلال الفنّ – لأجل الثورة.
الثورة – لأجل التحرير الكامل للفنّ».
في تلك الغضون كانت السورياليّة، التي أنجبتها الحرب العالميّة الأولى، تنكفىء أمام اندلاع الحرب العالميّة الثانية وتذوي، إلاّ أنّ تأثيرها بقي ملموساً حتّى يومنا هذا، تماماً كما بقي التأثير الذي خلّفته حركات سبقتها أو تلتها، وكانت لاعقلانيّة وإبداعيّة في الوقت نفسه.
حازم صاغية – صحفي وناقد سياسي لبناني – الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة