لا تبدو هناك نوايا صافية بين أطراف النزاع في ليبيا لتجاوز الأزمة المتفاقمة ولا لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة وتعددية لاسيما أن ثقافة الإقصاء تسيطر على عقول أغلب الفاعلين السياسيين.
ثقافة الإقصاء تسيطر على عقول أغلب الفاعلين السياسيين
عاد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ليسوّق للإستراتيجية العشرية الخاصة بليبيا بعد حوالي عام من الإعلان عنها في مفتتح أبريل من العام 2002، منطلقا من أن “بلاده تلتزم بتعزيز المرونة العالمية والتجديد الديمقراطي، وتعزيز الدول المسالمة التي تعتمد على نفسها والتي تصبح شريكا اقتصاديا وأمنيا قويا قادرا على مواجهة التحديات المشتركة”، حيث توضع ليبيا ضمن خطة تشمل كذلك هايتي وموزمبيق وبابوا غينيا الجديدة وخمس دول في منطقة غرب أفريقيا الساحلية (بنين، كوت ديفوار، غانا، غينيا وتوغو) لتنفيذ إستراتيجية الولايات المتحدة لمدة عشر سنوات لمنع الصراع وتعزيز الاستقرار.
بحسب الهدف الأول الذي نصّت عليه الإستراتيجية فإن ليبيا تمضي قدما في انتقالها إلى نظام سياسي موحد ومنتخب ديمقراطيا ومستقر يتمتع بمشاركة واسعة من المجتمع الليبي وقبوله منه، ويمكنه تقديم خدمات عامة مستهدفة بشكل فعّال ومنصف يؤمّن حماية حقوق الإنسان لجميع الليبيين. لكن الأغلبية الساحقة من الشعب الليبي ترى عكس ذلك تماما، فالواقع يشير إلى حالة انقسام تعرفها البلاد على كل الأصعدة تقريبا بما فيها الاجتماعي والثقافي، وهي محكومة بنظام الميليشيات في العاصمة والمنطقة الغربية، وبسلطة أقرب ما تكون إلى العسكرية في منطقتي الشرق والجنوب.
ولا تبدو هناك نوايا صافية بين أطراف النزاع لتجاوز الأزمة المتفاقمة، ولا لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة وتعددية، لاسيما أن ثقافة الإقصاء تسيطر على عقول أغلب الفاعلين السياسيين سواء بدوافع سياسية أو حزبية أو أيديولوجية أو اجتماعية أو قبلية ومناطقية، أو لأسباب تتعلق بثقافة الغنيمة وبرغبة أطراف بعينها في السيطرة على الثروة باعتماد احتكار السلاح وفرض سلطة الأمر الواقع.
◙ الإستراتيجية الأميركية تقر صراحة بالعديد من الافتراضات والمخاطر التي تلازمها، وتحتاج إلى معالجة، والتي قد تعيق تحقيق الأهداف، إذا لم يتم التخفيف من حدتها
كانت الولايات المتحدة من أكثر الدول حرصا على ضرورة إجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة، قبل أن تتجاوز هذا الحرص إلى صمت رهيب على سلاح الميليشيات والقوات التركية والمرتزقة السوريين، مقابل الضغط على قيادة الجيش في بنغازي من أجل إجلاء عناصر مجموعة “فاغنر” الروسية، وهو ما يشير بداهة إلى أن الأميركان لا ينظرون إلى ليبيا إلا في سياقات مصالحهم الإستراتيجية وصراعهم على النفوذ مع الروس والصينيين، ولا يهمهم من الانتخابات ولا من التعددية والديمقراطية إلا ما يفسح المجال نحو السلطة للمحسوبين عليهم، ممّن لا يمكن أن يكونوا من المرتبطين بعلاقات جيدة قد تصل إلى مرتبة التحالف مع موسكو أو بكين، أو ممّن يدافعون عن مبدأ استقلال القرار الوطني وتأمين الثروة الوطنية.
والهدف الثاني ضمن الإستراتيجية الأميركية هو أن تدمج ليبيا بشكل أفضل الجنوب المهمّش تاريخيا في الهياكل الوطنية، مما يؤدي إلى توحيد أوسع وتأمين الحدود الجنوبية، وهذا الأمر يبدو مستغربا لاسيما أن الجنوب المظلوم والمحروم يمرّ مند عام 2011 بأسوأ أشكال التهميش والحرمان والانتهاكات دون أن يحرك المجتمع الدولي ساكنا لإنصاف أبنائه، ودون أن تضغط واشنطن على حلفائها في طرابلس من أجل توفير الحاجيات الضرورية للسكان المحليين كالوقود والسيولة النقدية والأدوية.
هناك من يرى أن اهتمام واشنطن بالجنوب ليس من أجل عيون الجنوبيين، وإنما من أجل حساباتها الإستراتيجية في علاقة بالمواجهة المفتوحة مع الروس والصينيين على دول الساحل والصحراء، وبأمن شركائها الأوروبيين الذين يعانون من موجات الهجرة غير الشرعية العابرة إليهم من الحدود الجنوبية الليبية، وكذلك بالثروات الباطنية الطائلة في إقليم فزان، كالنفط والغاز والمعادن الثمينة، إضافة إلى أن الأميركان يدركون أن الجنوب لا يزال يشكل مركز نفوذ للنظام السابق الذي لا تريد له أن يعود إلى السلطة مهما كان الثمن، خاصة أن سيف الإسلام القذافي الطامح للعودة إلى الحكم من خلال الترشح للانتخابات الرئاسية يوجد في المنطقة الجنوبية، وهناك من يؤكد أن الروس هم من يحمونه أو يساهمون في حمايته إلى جانب القبائل الموالية لنظام والده الراحل.
وينص الهدف الثالث على أن ليبيا تتقدم نحو جهاز عسكري وأمني موحد خاضع لسيطرة مدنية مع احتكار الاستخدام المشروع للقوة القادر على الحفاظ على الاستقرار والمساهمة في تحقيق أهداف الأمن الإقليمي. لكن ذلك يبقى شعارا من الصعب تحويله إلى واقع على الأرض، نظرا إلى جملة من الاعتبارات، منها أن المعركة على السلطة والسلاح تخفي وراءها صراعا أشرس على الثروة والنفوذ بين قوى داخلية وخارجية تمثّل ملامح المواجهة الدولية المفتوحة حول قيادة العالم، ومنها أن السنوات الماضية شهدت تشكيل مراكز نفوذ فاعلة ومؤثرة تعتبر أن استمرار مصالحها وامتيازاتها يكمن في ديمومة الانقسام السياسي بضمانة الانقسام العسكري والأمني، الذي أعطى لكل فريق مقاليد الحكم الفردي في منطقة سيطرته.
◙ الواقع يشير إلى حالة انقسام على كل الأصعدة وهي محكومة بنظام الميليشيات في العاصمة والمنطقة الغربية وبسلطة أقرب ما تكون إلى العسكرية في منطقتي الشرق والجنوب
وإذا كان المشير خليفة حفتر قد تمكن من فرض زعامته السياسية والاجتماعية بوضع يده على منطقتي الشرق والجنوب ومناطق الثروة النفطية، فإن السلطة الميدانية الفعلية في المنطقة الغربية هي الميليشيات المسلحة التي تحالفت مع رموز الفساد والأسر واللوبيات المتنفذة التي يرمز لها المهندس عبدالحميد الدبيبة، وهو يسيطر بمساعدتها على مفاتيح مصرف ليبيا المركزي والمؤسسات السيادية ويسعى إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه، وعدم السماح بحصول أيّ تغيير إلا إذا كان في مصلحته.
ومن الطبيعي أن يكون عبدالحميد الدبيبة أهم المتحمسين للشرط الرابع الوارد في الإستراتيجية الأميركية، وهو إيجاد بيئة للاقتصاد والأعمال في ليبيا تعزز النمو الاقتصادي المستدام والعادل، وتحد من الفساد، وتمكّن من إدارة أفضل للإيرادات، وأن يكون الضامن لتمكين واشنطن من نصيب الأسد في العقود والصفقات الضخمة، ولتبعية مالية واقتصادية بالإضافة إلى التبعية السياسية التي أصبحت جزءا من خارطة القرار في طرابلس.
وفق نصها، تقر الإستراتيجية الأميركية صراحة بالعديد من الافتراضات والمخاطر التي تلازمها، وتحتاج إلى معالجة، والتي قد تعيق تحقيق الأهداف، إذا لم يتم التخفيف من حدتها. وهذا يشمل الوضع السياسي والأمني العام وقدرة الولايات المتحدة على الوصول بشكل أكبر إلى ليبيا للانخراط في الجهود الدبلوماسية والإنمائية. وتحدد الخطة سلسلة من تدابير التخفيف لمعالجة المخاطر المحددة، بما في ذلك إذا ظل الوضع متقلبا. وهي تدرك أهمية نهج التنفيذ المرن لتمكين تعديل جهود حكومة الولايات المتحدة نحو أهدافها حسب الحاجة.
وفي الإقرار اعتراف واضح من الإدارة الأميركية بأن الأهداف المرسومة لن تتحقق بسهولة وإنما ستكون في مهب الريح، لاسيما أن الأيام أثبتت فشل واشنطن في حلحلة الأزمات وعجزها عن فهم أعماق المجتمعات والاكتفاء بالوقوف عند التعامل مع السطح، كما حدث في دول عدة من بينها العراق وأفغانستان.
الحبيب الأسود – كاتب تونسي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة