المشروع الأصغر حجما قد يكون الحل الأكثر قبولا بين دول التحالف المفترض الذي لا يثير الكثير من الحساسيات مقارنة مع حلف عسكري يفتح المجال لرؤية قوات إسرائيلية إلى جانب قوات خليجية في مواجهة خطر إيراني.
لا بد من وقفة حاسمة أمام خطر التمدّد الإيراني
الحديث عن “ناتو” عربي يتجاوز الكثير من الحقائق على الأرض. هذا المسمّى، في أفضل حالته، تبسيط مخلّ لواقع الحال في المنطقة. الشرق الأوسط اليوم يمر بمرحلة من أسوأ مراحله لدرجة أن من الصعب تشخيص عدد المشاكل التي تواجهه. وضع مفردتي “الرئيس الأميركي الزائر” بجانب “ناتو عربي” لن يولّد حلولا سحرية للمشاكل.
لا نريد إجراء مقارنة مع فكرة الناتو الأصلية. ذاك تحالف نشأ في ظروف استثنائية أعقبت الحرب العالمية الثانية وانطلاق الحرب الباردة. في مواجهة الجيش الألماني، انصهرت جيوش الغرب في كتلة مقاتلة تحارب على عدد من الجبهات، في شمال أفريقيا وجنوب أوروبا وغربها. ليس هناك أكثر من رفقة السلاح لاختبار النوايا وتقريب المواقف. ولأن الغرب كان مدركا لخطورة اشتعال حرب أيديولوجية ثانية ترث الحرب على الفاشية، فإنه اختار نقطة الانطلاق في مواجهة الشيوعية من حيث انتهى في حربه مع النازية: التنسيق العسكري تحت قيادة الولايات المتحدة بمسمّى الحلفاء الذي تحول إلى الناتو.
الوضع في الشرق الأوسط لا يشبه حال أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. أوروبا كانت مهدّمة بعد معارك طاحنة وقصف جوي دمّر مدنها، وكانت على شفى الانهيار الاقتصادي بعد أن استنزفت الحرب مواردها. مشروع مارشال الذي أغدقت فيه الولايات المتحدة المال على إعمار أوروبا كان جزءا من مداواة جروح الحرب. الشرق الأوسط اليوم تختلط فيه الفوضى السياسية مع الهدم مع عدم انتهاء المشاريع الأيديولوجية المتصارعة ووضوح الصورة في ماهية العدو الجديد.
دعوة العاهل الأردني لإقامة ناتو عربي لا تخلو من دوافع مصلحية أردنية لكن المنطقة غير مهيأة لمثل هذه الأحلاف الآن التي لو حدث وتأسست فإنها ستضاف إلى قائمة مشاكل المنطقة
الناتو العربي يفترض أن يقوم على تحالف الدول المدعوة لاجتماع جدة بحضور الرئيس الأميركي الزائر جو بايدن. يفترض أيضا أن إسرائيل غير الحاضرة ستكون ممثلة في الاجتماع، سواء بالصوت الأميركي أو بما مررته من اهتمام ومواقف من خلال دول الاتفاقات الإبراهيمية. لكن هل هذه الدول مستعدة حقا لأن تكون جزءا من الناتو المستقبلي؟
الخطر واضح وهو إيران. إيران أكبر عامل مزعزع للاستقرار في المنطقة. هذا ليس وليد اليوم، بل مع وصول آية الله الخميني إلى طهران عام 1979 وإعلانه مشروع تصدير الثورة الإيرانية التي أطاحت بالشاه إلى دول المنطقة. لم يحدث إلى الآن ما يدعو للاعتقاد بأن ورثة الخميني قد تراجعوا عن هدف قائد الثورة الإيرانية.
لكن علاقة الدول المشاركة بقمة جدة مع إيران مختلفة: من استراتيجية “فركة كعب” المصرية مرورا بتنسيق على مختلف المستويات مع قطر وتجنب الشر الإيراني في الكويت وصولا إلى وضع “لا حول ولا قوة” في العراق. العلاقة الإقليمية مع إيران لا تقوم على العداء بين الرياض وطهران. الجميع يحس بالخطر الإيراني، لكن يتصرف معه على أساس مختلف. لا يذهب العرب إلى قمة جدة وهم على قلب واحد. الأحلاف لا تقوم على هذا الأساس.
ثم هناك التباينات بين وضع الدول سياسيا واقتصاديا. إذا كان من رسالة حملتها زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى مصر والأردن، فإنه لا يوجد مشروع مارشال سعودي/خليجي للخروج بدول مثل الأردن ومصر من مروحة متعددة الألوان من المشاكل الاقتصادية. التخويف من الانفجار الداخلي بسبب الوضع الاقتصادي والجمود السياسي في مثل هذه الدول، لا يعد نقطة انطلاق مفيدة لحلف في مواجهة خطر خارجي مثل الخطر الإيراني.
ماذا عن التنسيق العسكري؟ فيما عدا قتال القوات السعودية والقوات الإماراتية جنبا إلى جنب في حرب اليمن، فإن جيوش التحالف المفترض لا تعرف بعضها البعض ولا ترتبط بعقائد عسكرية متشابهة. صحيح أن دولة مثل الإمارات عملت الكثير لترتيب مناورات عسكرية مشتركة بين عدد من دول الإقليم، لكن المناورات المشتركة ليست اللبنة الأساسية في بناء تحالفات مثل الناتو.
الخطر الإيراني خطر خارجي، لكن أبعاده الداخلية قد تكون أضعاف الخارجية. الميليشيات الموالية لإيران تنخر البناء السياسي والاجتماعي في العديد من الدول في الإقليم. العراق، الدولة المرشحة لعضوية الحلف، محكومة بميليشيات الحشد الشعبي، وهي ميليشيات ولائية تدين لإيران بوجودها. حزب الله والحوثيون وميليشيات الهجين في سوريا، قوى حقيقية تتحكم بمصائر لبنان واليمن وسوريا. هناك ميليشيات سياسية كامنة غير مسلحة موجودة في الخليج ترفع صور خامنئي في كل مناسبة وينطق ممثلوها في المهجر بلسان حال من ينتظر الفرصة للانقضاض على الوضع القائم. وإذا كانت الطائفية تحرّك هؤلاء، فإن الاختراق الإيراني عابر للطائفية. حماس أكبر مثال على هذا، وإن لم تكن المثال الوحيد.
في تركيبة الناتو المفترض هناك إسرائيل. الإيرانيون تمكنوا من تحييد حماس لصالحهم كما يشهد الانفتاح الذي تبديه الحركة نحو نظام الأسد. لكن الإيراني أذكى من أن يترك الأمر لهذا المعطى فقط. اسأل أي فلسطيني، حتى من السلطة الفلسطينية التي تعادي حماس، عن الناتو العربي وسيقول لك إنه وجه جديد من أوجه التطبيع. الدعاية الإيرانية مكثفة وناجحة بشكل كبير لدرجة أن تأثيرها يصل إلى شمال أفريقيا ويحقق غايات تفوق كل ما تستطيع آليات الإعلام العربي الموالي للسعودية ودول الاعتدال من تحقيقه هناك. هذا يجعل من القضية الفلسطينية عقبة في سبيل أي ترتيبات عسكرية تحت أي مسمّى. لا فرق في توصيفات الفلسطينيين لها بين عباس وحماس.
المشروع الأصغر حجما، الذي يقوم على آليات الرصد الجوي للمسيرات وصواريخ كروز والصواريخ البالستية، قد يكون الحل الأكثر قبولا بين دول التحالف المفترض الذي لا يثير الكثير من الحساسيات بالمقارنة مع حلف عسكري يفتح المجال لرؤية قوات إسرائيلية إلى جانب قوات خليجية في مواجهة خطر إيراني. لا تزال المنطقة تدفع ثمن التبرير الذي قدمه أسامة بن لادن لتأسيسه القاعدة وإطلاقه حرب الإرهاب على المنطقة والعالم. التبرير يقول إنه بسبب تواجد القوات الأميركية على أرض الحرمين. ماذا سيكون رد فعل أمثال بن لادن لو كانت القوات على الأرض أميركية وإسرائيلية.
دعوة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني لإقامة ناتو عربي لا تخلو من دوافع مصلحية أردنية. لكن المنطقة غير مهيأة لمثل هذه الأحلاف الآن التي لو حدث وتأسست، فإنها ستضاف إلى قائمة مشاكل المنطقة التي لا تنتهي.
د. هيثم الزبيدي – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة