عقوبات قيصر على سوريا بدأ تنفيذها منذ نحو تسعة أشهر، فوصل الدولار الأمريكي إلى ما يقارب أربعة آلاف ليرة سورية.
وأصبح أكثر من تسعين بالمئة من السوريين يجدون صعوبة في تأمين قوتهم اليومي. أما العملية السياسية، سواء المتعلقة بمسار مفاوضات اللجنة الدستورية في جنيف، أو بأي تفاهمات بين الدول المعنية بالأزمة السورية، فلم تتقدم قيد أنملة طوال هذه الشهور.
الاستعصاء في حلحلة الأزمة سياسياً، وما يواكبه من تدهور في الأوضاع الإنسانية والاقتصادية بسبب عقوبات قيصر، أثاره وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد بعد لقاء نظيره الروسي خلال زيارته لأبوظبي ضمن جولة خليجية شملت الرياض والدوحة أيضاً. ومن ضمن الخطوات الضرورية لاحتواء الأمر برأي الإمارات، يأتي توفير الأجواء لعودة سوريا إلى الجامعة العربية.
الوزير الإماراتي ينظر إلى الأزمة السورية ضمن إطار شامل، وهو يطرح مقاربة واقعية لمعالجتها في سياق عربي دولي يحررها من التجاذبات الإقليمية التي تتنازعها من أجل تقسيمها إلى دويلات وكيانات متناحرة. ولا نبالغ بالقول إن هذه التجاذبات هي ما يعطل حل الأزمة، خاصة وأن الدول الكبرى المعنية، روسيا وأمريكا تحديداً، لم تتوصلا حتى الآن لصيغة واضحة في هذا الملف.
تركيا وإيران تمثلان طرفي التجاذبات الإقليمية التي تكبل سوريا. فكل من الدولتين تحاول فرض حضورها على الديمغرافية والجغرافية السورية لتحيل مناطق بأكملها إلى محافظات أو ولايات تتبع لأنقرة أو طهران. حجة الطرفين “حماية” الأمن القومي لهما، وكل منهما يزعم مساعدة الشعب السوري في استعادة بلاده المدمرة بفعل عشر سنوات من الحرب متعددة الأوجه والأقطاب.
هل تحتاج الأزمة السورية لمقاربة جديدة في البحث عن حلول لها؟ هل حان الوقت لإعادة النظر في نظرية الإقصاء والقطيعة مع النظام التي تمارس عربيا في التعامل مع الأزمة قبل سنوات؟ هل بات من الضروري إجراء مراجعة للسياسات التي اتبعت في التدخل بالأزمة لصالح هذا الطرف أو ذاك داخلياً، والإصغاء إلى حقيقة أن مشكلة سوريا تتجاوز الأشخاص التي يتحدثون باسمها؟
الإجابة الواضحة على كل هذه الأسئلة تكون بنعم. ومن أدرك ذلك ليس فقط الإمارات بل عدة دول عربية تعتبر أن استرداد المبادرة في حل الأزمة السورية، يأتي في سياق حماية المنطقة من التدخلات التركية والإيرانية التي تنتهك سيادة دولها. ولهذا سارع وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو إلى قطر ليعطل المساعي الروسية في حشد الجهود باتجاه مقاربة عربية جديدة للأزمة.
جاء الوزير التركي ليقول إن قرار الدوحة يتبع لأنقرة في الأزمة السورية، ولن يسمح للقطريين بالخروج عن المسار الذي صاغه “السلطان” رجب طيب أردوغان في هذه الأزمة. عليهم أن يؤيدوا السياسة التركية في هذا الملف، ويدفعوا الأموال للشخصيات والكتل والميليشيات السورية التي تعمل في المناطق التي يحتلها الجيش التركي شمالاً، بالإضافة لتعطيل أي قرار عربي تجاه دمشق.
يبدو هذا الدور مناسباً جداً لقطر، لأنه يجنبها الحرج مع إيران التي يتوجب أيضاً على الدوحة مراعاة مصالحها في المنطقة، من خلال الإنفاق على ضمان استمرار الأزمة السورية، أو من خلال الاعتراض على أي محاولة عربية لمحاصرة نفوذ طهران فوق الأراضي السورية. لا يهم في ذلك إن كان الإيرانيون يقاتلون من تدعي قطر “نصرتهم” في سوريا، المهم فقط أن يكون قادة “الثورة الخمينية” و”العثمانية الجديدة” وجماعة الإخوان المسلمين راضون عن الدوحة.
تجاهل حقيقة أن الأزمة معقدة لارتباطها بتجاذبات كثيرة بين عدة قوى متناحرة لن يفيد السوريين. كذلك لن يفيدهم الترويج لمستقبل أفضل تحت وصاية أمريكا أو إيران أو تركيا أو روسيا. لابد من الاعتراف بأن الأزمة لم تعد ثورة شعبية، والصراع على السلطة إضافة للعنف وتردي الأوضاع الأمنية والإنسانية والاقتصادية، باتت سمات كل المناطق، سواء تلك الخاضعة لسيطرة الحكومة أو تلك التي تدعي “الاستقلال” وهي مكبلة باحتلال تركي أو بوصاية أمريكية.
على ضوء هذه المعطيات يجب أن تولد المبادرات العربية لحل أزمة سوريا. لا يتعلق الأمر بمن يجلس على الكرسي المخصص لها في مقر الجامعة العربية، وإنما بطرح رؤية عادلة من الأشقاء الذين لا يحلمون باقتطاع مساحات من أراضيها، ولا يريدون هيمنة لتركيا أو إيران على أجزاء منها، ولا يدعمون نجاح مشاريع انفصالية لطائفة أو قومية هناك، كما لا يقبلون باستمرار مأساة النازحين واللاجئين إلى الأبد، ولا ينكرون حاجة السوريين إلى المصالحة الوطنية.
إن توافرت هذه الرؤية لن يبقى سوى إيجاد التفاهمات الدولية حولها، وتحديدا بين الروس والأمريكيين. فإن حصل التوافق تكفلت الجامعة العربية بالتنفيذ عبر تشكيل مجلس انتقالي يخرج عن حوار سوري سوري تحتضنه دولة شقيقة. لن تستطيع إيران وتركيا عرقلة مثل هذه المساعي إن حصلت على توافق في مجلس الأمن عبر الروس والأوروبيين والأمريكيين، وأبدت الجامعة العربية استعدادها لتمكين المجلس الانتقالي بالدعم المالي وحتى العسكري إن تطلب الأمر.
بعد عشر سنوات من الموت والدمار، لاشك أن السوريين يحتاجون إلى مقاربة جديدة لأزمتهم. ثمة محاولة روسية لخلق هذه المقاربة عربيا، والمنطقة بأمس الحاجة للوحدة أمام مشروعين توسعين واضحين يهددانها، هما الإيراني والتركي. صحيح أن موسكو تبحث عن مصالحها الخاصة في هذه المقاربة، ولكن ما الذي يمنع صياغتها بتحالف عربي روسي أمريكي يحل محل أستانة وسوتشي و أي مسار مشوه لا يعترف بجميع السوريين، ويتجاهل الحاضنة العربية لدولتهم.
بهاء العوام – صحفي سوري – العين الإخبارية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة