ليبيا ليست سوى مستعمرة تركية تابعة لحزب أردوغان ومواليه، والأمر لا يقتصر على مرتزقته وجيشه وشركاته، والافتراض بأن أردوغان سوف يرضخ في النهاية إلى المطالب الدولية برحيل قواته افتراض ساذج.
تلميذ نجيب للمدرسة الأردوغانية
مَنْ لم يُصدق أن عبدالحميد الدبيبة رئيس الحكومة الليبية يعمل في خدمة أجندة رجب طيّب أردوغان الاستعمارية في ليبيا، فقد أتاح له مؤتمر برلين 2 الفرصة لكي يتيقن من ذلك.
لقد استخدم الدبيبة اللغة المنافقة نفسها التي يستخدمها أردوغان. وهي لغة تُسمعك القبول واللين، وتوفر الذرائع لما هو عكس ذلك.
الدبيبة أثبت في كلمته أمام المؤتمر أنه تلميذ نجيب لهذه المدرسة الأردوغانية. صحيح أنه قال إن حكومته تطالب برحيل القوات الأجنبية والمرتزقة، إلا أنه عطل الدعوة لتحديد جدول زمني لذلك. وصحيح أنه قال إن حكومته تريد إجراء انتخابات في 24 ديسمبر المقبل، إلا أنه مهّد للفشل بالقول “إن الخلافات الداخلية والمصالح تعيق الانتخابات”، وألقى باللوم على المؤسسات التشريعية “للوصول إلى القاعدة الدستورية” للانتخابات، وطالب “الأطراف الليبية بوقف التعطيل والالتزام بالتعهدات”، وكأن الجماعة التي تقف خلفه ليست من تلك الأطراف. وصحيح أنه دافع عن وحدة المؤسسة العسكرية (التي لا يريد هو توحيدها، بدلالة امتناعه عن الاجتماع مع المشير خليفة حفتر) إلا أنه قال إن “المزيد من العمل مطلوب لتوحيد المؤسسة العسكرية ومن الضروري تجاوز الانقسام وتحقيق الوحدة”.
ما يحاول أردوغان فعله هو أن يُعد المسرح الليبي للذهاب في أحد مسارين: استئناف الفشل ليسفر عن تجدد النزاع فتبقى قواته، أو للفوز بالانتخابات فتبقى قواته أيضا
الكلام يُرضيك، ولكن “موُت يا حمار حتى يجيك الربيع”. هذه هي مدرسة أردوغان، وهذا هو الدرس الأول. والدبيبة تلميذ نجيب.
ليبيا ليست سوى مستعمرة تركية تابعة لحزب أردوغان ومواليه. والأمر لا يقتصر على مرتزقته وجيشه وشركاته، ولكنه يمتد إلى صورة تركيا العثمانية نفسها. والافتراض بأن أردوغان سوف يرضخ في النهاية إلى المطالب الدولية برحيل قواته، ليس سوى افتراض ساذج.
الولايات المتحدة نفسها لن تجد سبيلا لكي تملي على أردوغان التخلي عن احتلاله لليبيا. إذ يمكن أن يبيعها شيئا لترضى ببقائه. ويمكن لأردوغان أن يقدّم تنازلا بترحيل بعض المرتزقة واستبدالهم بآخرين، إلا أن قواته باقية في نهاية المطاف. وهي هناك لكي تتحكم بقواعد اللعبة المقبلة، وليس فقط بالواقع القائم.
الوجود التركي الذي يتخذ من “دعوة حكومة الوفاق” غطاء له، ترسخ بمعاهدات والتزامات وقواعد عسكرية. وفي بلد هش مثل ليبيا، فلن تنقص أردوغان الأحابيل لكي يبتدع مبررات إضافية لبقاء تلك القوات. وها هو الدبيبة يمهد مسبقا بوضع “خلافات الأطراف الليبية” كعائق أمام كل شيء، بما في ذلك الانتخابات نفسها، وكأن الانتخابات لم تكن هي الفيصل المطلوب لحسم مشكلة الشرعية. أما الخلافات فلا يوجد غبي واحد في العالم يعتقد أنها سوف تنتهي، أو أنها يجب أن تنتهي لكي يتم إجراء انتخابات.
المعادلة بسيطة: العالم يريد انتخابات لإنهاء الخلاف حول الشرعية. وأردوغان يريد بقاء الخلافات لإنهاء الانتخابات. هذه هي كل اللعبة.
لقد كان الافتراض الأممي الذي سمح بتشكيل حكومة الدبيبة يقضي بأداء أربع مهمات كبرى: فتح الطرق بين أرجاء البلاد المختلفة، وتوحيد المؤسسات بما فيها المؤسسة العسكرية والأمنية، وترحيل المرتزقة والقوات الأجنبية، وإعداد الظروف لإجراء انتخابات في الـ24 من ديسمبر المقبل.
لم يبق سوى ستة أشهر على عمر هذه الحكومة. وباستثناء الفتح المتأخر للطريق الساحلي، فلا شيء من تلك المهمات الكبرى تحقق بالفعل.
لقد مارس الدبيبة كل الأحابيل لكي يظهر بمظهر القادر على تمثيل الليبيين إلا أنه لم يتمكن من تمثيل أحد أكثر من مصالح أردوغان. وهو لن يخذله لأن مصالحه الشخصية مع تركيا أكبر من مصالحه في ليبيا. ولو أنه حصل على الجنسية التركية (وهذه قد تكون نبوءة متأخرة) فإنه سوف يشعر بانتماء أعمق بكثير من انتمائه الوهمي لليبيا.
ذهب الدبيبة إلى مصر ليخدعها بأنه ليبي، مثلما حاول أردوغان أن يجعل من مغازلاته لمصر مسعى للفوز ببعض القبول لوجود قواته في ليبيا، أو لإطالة أمده على الأقل.
يعرف أردوغان، كما يعرف تلميذه النجيب، أن مصر هي حجر الزاوية. ليس بسبب عمق الروابط بين الشعبين الليبي والمصري، وليس بسبب عوامل الجيرة وتداخل المصالح، بل لأن ليبيا جزء من العمق الاستراتيجي والأمني لمصر. ويوم وضع الرئيس عبدالفتاح السيسي خطوطه الحمر لمنع اجتياز خط سرت – الجفرة وكانت القوات المصرية على أهبة الاستعداد للتدخل، أدرك الجميع أن اللعبة لا بد وأن تتوقف هناك، وأن الأدوار في ليبيا لها حدود.
خططُ الحاجةِ إلى مغازلة مصر بدأت من هناك أيضا، إذ عندها أدرك أردوغان أنه لا بد من تدابير أخرى.
لقد استخدم الدبيبة اللغة المنافقة نفسها التي يستخدمها أردوغان. وهي لغة تُسمعك القبول واللين، وتوفر الذرائع لما هو عكس ذلك
الكل يستطيع أن يرى الآن، أن أردوغان حقق نصرا بانتخاب المجلس الرئاسي الحالي وجعل الدبيبة على رأس الحكومة. وهو نصر لم يوفر للقوات التركية عاما إضافيا من الزمن، ولكنه وفّر الأرضية لتلك التدابير لكي تتمكن من تأبيد بقائها، وليس تمديده فحسب.
استبدال المرتزقة بغيرهم ليس هو الأداة الوحيدة. وترحيلهم ليس سوى جزء من مقايضة تقصد توفير المبررات لبقاء الاحتلال العسكري، فإذا زال، بقي الاحتلال الأمني، فإذا زال بقي الاحتلال السياسي والاقتصادي. وهذه قصة تحتاج 20 سنة على الأقل لكي تعرف نهايتها، وليس ستة أشهر.
كل الذين يُنسب لهم دعم المرتزقة الروس من مجموعة فاغنر، قدموا ما يكفي من التعهدات بأنهم سوف يرفعون عنها الغطاء. وحيثما ظل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينكر وجودهم، فهو فعل ذلك، لأنهم ساعة يختفون، سيعود ليقول إنه “لا وجود لهم. ألم أقل لكم ذلك من قبل”.
الحاجة إلى المرتزقة الروس كان لها مبرر واحد فقط. هو التردّد المصري. الجيش المصري على قوته الفائقة، فإنه يوفر نفسه على نفسه، ويقتصد في لعب أدوار خارجية. وقد انتظر الرئيس السيسي حتى بلغت السكين حد الرقبة، ليقول “إلى هنا وبس”.
يعرف أردوغان ذلك. لا تضع السكين على رقبة مصر. هذا هو الاستنتاج الأهم. ولكن يمكن وضعها في الخاصرة من خلال الغزل.
هذا الفهم هو الذي يبرّر للدبيبة أن يتأخر في إنجاز مهمات حكومته. والسجال لا يزال مفتوحا على الأسس التي تقوم عليها الانتخابات، وما إذا كان يجب إجراء استفتاء على الوثيقة الدستورية، أو ما إذا كان يمكن انتخاب الرئيس الليبي المقبل من قبل الشعب مباشرة أم من خلال البرلمان.
لم يذهب وزراء الدفاع والداخلية والمالية وكبار المسؤولين العسكريين الأتراك إلى أي مكان كحشد مثلما ذهبوا إلى ليبيا. ولم يكرروا تلك الزيارات بانتظام يبلغ حد إثارة مشاعر القرف، مثلما فعلوا مع ليبيا. وكلّما تعهد أردوغان في العلن بسحب المرتزقة، دفع وزير دفاعه خلوصي أكار ليؤكد أن القوات التركية باقية.
من أجل ماذا؟ هل لك أن تسأل؟ الجواب الساذج هو ما ظل يلتقطه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فعرض خطة من ثلاث مراحل لبدء الانسحابات اعتبارا من يوليو المقبل. وها هو مؤتمر برلين 2 يفشل في تبني هذه الخطة.
لقد كان يجدر بالمرء قبل المؤتمر أن يعرض الرهان على أن ذلك لن يحصل، وهو لم يحصل بالفعل، لكن ليس من أجل أن يكتشف ماكرون سذاجته وقلة خبرته بالأحابيل الإخوانية، بل من أجل أن يرى كيف أن فرنسا الاستعمارية كلها لا تملك عشر معشار ما يملكه أردوغان من قابليات الخداع.
مصر أرسلت وزير مخابراتها ليحاول إقناع الدبيبة بتوحيد المؤسسة العسكرية وقبول المشير خليفة حفتر ضمنها. ولكن هذا قرارٌ كان يتطلب من عباس كامل أن يذهب إلى أنقرة. فإذا اكتشفت القاهرة أن في ذلك ضررا بمكانتها وقوتها ومصالحها وأمنها الاستراتيجي، فإنها سوف تدرك تلقائيا أن الترددَ حيال لعب دور مباشر في الأزمة الليبية ضررٌ مماثل.
الدبيبة يمهد مسبقا بوضع “خلافات الأطراف الليبية” كعائق أمام كل شيء، بما في ذلك الانتخابات نفسها، وكأن الانتخابات لم تكن هي الفيصل المطلوب لحسم مشكلة الشرعية
ما يحاول أردوغان فعله هو أن يُعد المسرح الليبي للذهاب في أحد مسارين: استئناف الفشل ليسفر عن تجدد النزاع فتبقى قواته، أو للفوز بالانتخابات فتبقى قواته أيضا.
أليس هذا هو بالضبط ما حصل عندما وضعت مصر خطوطها الحمر، ففاز أردوغان بمجلس رئاسي هزيل ورئيس حكومة يتصرف كتلميذ نجيب؟
ليبيا مستعمرة تركية. ومصر يجب أن تقبل ذلك، أو أن تكف عن التردد في التدخل المباشر. ألاعيب أردوغان لن تنتهي على خير أبدا، وهو لن ينسحب.
علي الصراف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة