يتمتّع الرئيس أردوغان بموهبة استغلال الفرص التي تقدّمها له التطورات العالمية التي وضَعت أمامه خُصوما أقلّ حزما منه.
بعد أن دق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إسفينا بين دول الاتحاد الأوروبي بسبب الحرب الأهلية الليبية المستمرة، بدأ يسعى إلى استغلال هذا الانقسام لتوسيع نفوذه وسيطرته على شرق البحر المتوسط. وفي نفس الوقت، يعمل على تعزيز موقعه ومكانة بلاده بينما تنشغل الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية المقررة في 3 نوفمبر.
في القصة الشعبية حول السلحفاة والأرنب، تفوز السلحفاة الثابتة والحازمة على الأرنب الأكثر نشاطا وسرعة. ولأكثر من عقدين من الزمن، استخدم أردوغان تكتيكات متنوعة دون فقدان التركيز على الهدف: تحقيق تفوق تركيا في منطقتها الجغرافية وبين الدول ذات الأغلبية المسلمة، وتنصيب نفسه زعيما للعالم الإسلامي.
يتربص دبّ في الخلفية للاستفادة من الفرص التي تقدمها هذه اللعبة، وهو زعيم طموح من شواطئ البحر الأسود الجنوبية. يتخيل المرء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يبتسم بينما يُقوّض أردوغان وحدة الاتحاد الأوروبي والناتو.
يتمتّع الرئيس أردوغان بموهبة استغلال الفرص التي تقدّمها له التطورات العالمية التي وضَعت أمامه خُصوما أقلّ حزما منه. في السياسة الداخلية، بقي إخفاقه في التلاعب في الانتخابات البلدية المُعادة سنة 2019 في إسطنبول استثناء صارخا لسيطرته على السياسة الانتخابية التركية. ومع ذلك، قلّما نال هو وحزبه “العدالة والتنمية” أغلبية الأصوات المدلى بها.
وأدت خاصيات النظام الانتخابي التركي، واستغلال الرئيس الذكي لانقسام منافسيه إلى سيطرة حازمة على البرلمان لما يصل إلى عقدين من الزمن، حتى مع بقاء الأصوات ضد حزب العدالة والتنمية أكثر من الأصوات لصالحه. ونرى امتدادا لهذه الإستراتيجية في الشؤون الخارجية.
تظهر هذه الميزة مقارنة بانقسام الاتحاد الأوروبي في دعمه لليونان في شرق البحر المتوسط. فعلى قاعدة المعارضة المفككة، يبني أردوغان هيكلا من الاستياء المحلي من السيادة اليونانية على الجزر القريبة من البر الرئيسي للأناضول. ويسعى إلى بسط سيادة تركيا الفعلية على منطقة بحرية شاسعة من المحتمل أن تكون غنية بالمواد الهيدروكربونية والطبيعية التي من المفترض أن تكون لدول أخرى. لكن، يجب ألا تنخدع وتنسى أن هدف أردوغان يتجاوز تطوير موقف تفاوضي قوي بشأن تقاسم الموارد الطبيعية في شرق البحر المتوسط.
يرغب أردوغان في تصوير نفسه مدافعا عن مصالح المسلمين وامتيازاتهم وحقوقهم أينما كانوا. وينتقد الإسلاموفوبيا المزعومة في أوروبا، وإسرائيل بسبب الازدراءات الحقيقية أو المتخيلة للأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، وحرص على تحويل متحف إلى مسجد لعكس إصلاحات أتاتورك العلمانية. بذلك، يرسم أردوغان صورته باعتباره المدافع الرئيسي عن جميع المسلمين، وخاصة في تركيا ومحيطها، لكنه لا يفعل الكثير للدفاع عن المسلمين الإيغور المضطهدين في غرب الصين إذ لا يرى أي مصلحة تكتيكية أو عملية في ذلك.
يرغب أردوغان في تصوير نفسه مدافعا عن مصالح المسلمين وامتيازاتهم وحقوقهم أينما كانوا. وينتقد الإسلاموفوبيا المزعومة في أوروبا وإسرائيل بسبب الازدراءات الحقيقية أو المتخيلة للأماكن الإسلامية المقدسة في القدس
وهو يستغل هذه الصورة ضد خصومه السياسيين المحليين وضد المناوئين الدوليين لأهدافه التوسعية. إذ يشوه معارضيه في الداخل مروجا إلى أنهم ليسوا “مسلمين حقيقيين”، ويصف خصومه في الخارج بأنهم مناهضون للترك وللمسلمين. في كلتا الحالتين، يبقى تحييده لمعارضيه فعالا، فهم يحاولون تجنب التسميات التي يحاول اتهامهم بها.
ونذكر مثال الاتحاد الأوروبي بقيادة البيروقراطيين والزعماء المنتخبين الذين قد لا يفهمون الهوية الدينية وقوتها السياسية. ونحن نرى هذا التكتل عازما على التراجع لتجنب الظهور في صورة المعادي للإسلام. فهو لم ينجح في رؤية الإسلام على أنه فسيفساء لا كتلة متراصة تتبنّى مذهبا محدّدا، يجسّده أردوغان في هذه الحالة. إن هذه مفارقة كبيرة، حيث أن العديد من السياسيين في الاتحاد الأوروبي يكشفون عن جهلهم بالإسلام برؤيته مقتصرا عما يصوره أردوغان.
في نفس الوقت، يلعب الرئيس الأميركي دونالد ترامب دورا فعليا في الوساطة بين اليونان /الاتحاد الأوروبي وتركيا، لكنه لا يولي سوى الحد الأدنى من الاهتمام للنزاع المحتدم. ونظرا لعلاقته مع أردوغان التي تتفوق على روابطه مع قادة الاتحاد الأوروبي، يمكن لترامب تهدئة أي مخاوف تركية وروايات قد تدعي أنه يميل إلى الاتحاد الأوروبي.
لكن قلق ترامب يتزايد مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقررة في 3 نوفمبر، مما يقلص مكانة القضايا الأخرى على جدول أعماله. يدرك أردوغان ذلك، مما يجعله واثقا من قدرته على الدفع ضد اليونان لأن الزعيم الغربي الوحيد الذي بقي على علاقة جيدة معه لن يضغط عليه للتراجع (على الأقل قبل الانتخابات الأميركية).
لهذا، من غير المرجح أن يُحل الموقف ما لم يقرر أردوغان أنه قد أكد الحقوق والامتيازات التركية بما يكفي حتى لا يخسر أي شيء بالتراجع عن جهوده لفترة وجيزة. لكن، هل سيكون أردوغان راضيا عن التفوق في شرق البحر المتوسط، أم أنه سيدفع من أجل المزيد؟
يعمّ التوجّس عواصم الاتحاد الأوروبي ومعابر مقر الناتو في بروكسل والمكاتب الفخمة للقصر الرئاسي في أنقرة، إذ يخشى الجميع أن تخرج الأمور عن السيطرة، وتصطدم السفن (مرة أخرى)، وأن تُسجّل خسائر بشرية نتيجة لهذا الصراع. إذا حدث هذا الاحتمال الأخير، فسوف يكون نجاح الجهود اللاحقة لحل النزاع والمصالحة شبه مستحيل.
في هذه الأثناء، يعاين الدبّ الروسي التطوّرات، متسائلا عما إذا كان حساء السلاحف يتناسب مع الأرنب المشوي.
إدوارد جي ستافورد – كاتب في موقع أحوال تركية – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة