استيعاب الأسد ونظامه كان يمكن أن ينجح قبل عشرين عاما، حين كان العرب مشغولين بتدمير العراق. الآن هو في حضن إيران والأوان قد فات.
هل سيتحقق التطبيع العربي مع الأسد أم لا؟
قبل أن يصرّ العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني على طرد سفير النظام السوري اللواء بهجت سليمان من عمّان، بعد مواقفه المعادية للأردن وبعد تواصله مع جهات شعبية وسياسية أردنية بطريقة أزعجت العرش، كان قد أسس لنهج من التعامل فوق الدبلوماسي ما بين سوريا والأردن. نهج يقوم على علاقة غير متكافئة على أحد طرفيها، وهو في هذه المعادلة الطرف الأردني، أن يبقي فمه مغلقا أمام أي استفزازات يمكن أن تصدر عن الطرف الآخر، أي النظام السوري، وعليه أيضا أن يقبل بعلاقات ثنائية قائمة على مصلحة الطرف الآخر لا على مصلحة الأردنيين. فحسابات نظام الأسد عابرة للجوار وتوازناته وتدخل ضمن نطاق المهام الوظيفية لبعض الدول في الإقليم والتي لم تتمكن من مفارقتها يوما.
مات بهجت سليمان، الذي كان عرّابا حقيقيا لتصدير صورة رئيس النظام السوري بشار الأسد بعد مقتل شقيقه الأكبر باسل في حادث سير. لكن ما رسخه رئيس الأمن الداخلي في جهاز أمن الدولة الأسبق لا يبدو أنه انقضى برحيله.
وبعد أن مهّد العاهل الأردني لمرحلة من التطبيع المستجد مع نظام الأسد، في رحلتيه الأميركية والروسية، وفي مشروع الغاز المصري الذي سيذهب إلى لبنان عبر الأراضي السورية، هبط وزير الدفاع السوري العماد علي أيوب في عمّان لمناقشة الأمن المشترك للبلدين، وربما لتوسيع طريق التطبيع العربي مع الأسد.
المشكلة ليست في هل سيتحقق التطبيع العربي مع الأسد أم لا، بل في كيفية تطبيق ذلك التطبيع. فالأسد ذهب بعيدا في خصومته مع العرب، وذهب أبعد في الاندساس في الحضن الإيراني، لدرجة تبدو معها مشاريع الملك الأردني نوعا من التنجيم السياسي أكثر منها مشاريع تحمل رؤى واقعية. فلا الاقتصاد سيعيد الأسد، ولا الدفاع والأمن سيطردان إيران من سوريا. ويبدو أن الأمر محسوم من قبل أن يستيقظ العدّاد الزمني العربي بزمن طويل.
كان يمكن لاستيعاب الأسد ونظامه أن ينجح قبل عشرين عاما، حين كان العرب مشغولين بتدمير العراق. وكان يمكن له أن ينجح من جديد حين كان الأسد ضعيفا بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. لكن إيقاع العرب يأتي دوما متأخرا. فريثما أدرك هؤلاء أن معنى مقاطعة النظام السوري عربيا ودوليا يعني حرفيا ”ترك الأسد يستفرد بقتل السوريين من جهة وبتسليم سوريا للقوى المعادية للعرب من جهة أخرى“ كان الأوان قد فات.
ماذا عنت تلك المقاطعة؟ لم تعنِ أقلّ من إخلاء الطريق أمام الإيرانيين ليتوغلوا في سوريا ويهيمنوا عليها ولتخيّم عباءة خامنئي السوداء كغيمة رهيبة على الأجواء السورية. وكان التهليل لقطع العلاقات مع الأسد لا يختلف عن احتفالات العرب بنصرهم في حروب خسروها مجتمعة. وكأن الوقوف مع الشعب السوري كان لا يتحقق إلا بسحب السفراء وقطع العلاقات وتمهيد الدرب للاحتلالات التي تقضم من سوريا من كل جهة. ومن الذي كان يصرّ على دفع العرب لقطع علاقاتهم مع دمشق؟ إنه الأميركي ذاته الذي يصرّ على أن الحل الوحيد للمأساة السورية هو بالتفاوض مع الأسد. فيا له من سيرك سياسي يتقافز فيه اللاعبون ليتفرّج عليهم العالم المتحضّر دون أن يحرّك ساكنا.
قد لا يكون الأردن يحسب تلك الحسابات، وربما كان يمضي في محاولة إحداث اختراق في المشهد السوري المستعصي. وهو يعرض على الروس مشروع مبادرة ترمي إلى ضبط الأوضاع في عموم محافظة درعا، بما يحقّق أمن الأردن ”القومي“ ويقف حائلا دون انتشار ميليشيات الحرس الثوري، وفي الوقت ذاته يلبي حاجة عمّان إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية المجمّدة مع الجار الشمالي. وفي أجندة الأردن أن هذا الانفتاح سيعطي دفعة للجهود السياسية للدفع بعملية السلام في سوريا إلى الأمام وفقا لقرارات مجلس الأمن.
يزعج الأردن الولايات المتحدة بمبادرته تلك، فهو يخرج عن الخط الذي وضعته واشنطن لدرجة الاتصال مع الأسد. لكنه يعتمد على أن جاره الإسرائيلي اللدود لن يعارض، مادام الإسرائيليون قد تمسكوا ببقاء الأسد في عهد بنيامين نتنياهو عشر سنين كاملة. إلا أن المفاجأة التي لم تكن محسوبة في عمّان هي أن تل أبيب ترفض مثل هذا المشروع رفضا تاما. فالأسد الذي رآه نتنياهو من قبل غير الأسد الذي يراه يائير لبيد ونفتالي بينيت اليوم.
إسرائيل تريد أن تشمل تلك الاتفاقية ثلاث محافظات في جنوب سوريا، هي درعا والسويداء والقنيطرة، حتى تزيد من صعوبة مهمة الأسد، وتكون لديها يد في صناعة مستقبل الجنوب باعتبارها تحتل جزءا منه، أي الجولان. وقد يظهر الهدف من ذلك اقتصاديا بادئ الأمر. غير أن خلق حالة في الجنوب السوري مغايرة للمنطقتين الوسطى والغربية في سوريا، بموازاة الوضع القائم في الشمال الغربي حيث إدلب وأرياف حلب، ومنطقة درع الفرات ونبع السلام وصولا إلى رأس العين في الجزيرة، والوضع المتواصل في الشمال الشرقي تحت سيطرة الأكراد، سيعني شيئا لإسرائيل أكثر من مجرّد فوائد اقتصادية. وهذا أيضا لا يدركه الأردن ولا يدخل في جدول أعماله. فتغيير شكل الدولة في سوريا، يعني إحاطة الأردن بفدراليات أو شبه فدراليات من العراق شرقا إلى سوريا شمالا، ولسوف يأتيه الدور عاجلا أو آجلا، وهو ما سيعني نهاية عهد وبداية آخر في عمر شرقي الأردن.
إبراهيم الجبين – كاتب سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة