تركيا أدركت على وجه اليقين، أن لا دور لها في صياغة مستقبل سوريا، وأن المسلحين الذين ترعاهم لا ولن يغيروا واقع سوريا وهم لا ولن يؤثروا في مستقبلها السياسي، لأنهم أسوأ وأكثر تخلفاً من النظام السوري الذي يعارضونه.
أردوغان يتوغل في المكابرة ويجازف بأرواح جنوده
بدت التطورات الأخيرة على الحدود السورية التركية، في منطقة إدلب، منذرة بالخطر على السكان المدنيين في المنطقة، وكذلك على سكان المنطقة من شعب تركيا. فعلى الرغم من البديهيات والثوابت التي يُفترض أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أدركها جيداً؛ فإن هذا الأردوغان، لا يزال يتجاهل هذه الحقائق والثوابت، وهذا ما يدل عليه الحشد الكثيف والمستمر للقوات على الحدود وداخل الأراضي السورية.
فعلى سبيل التذكير، لا مجال أمام الرجل أن يتجاهل كون هامش المناورة أمامه في وجود الروس، محدوداً ومحفوفاً بالمخاطر، وأن خيار الاستمرار في المغامرة العسكرية، ضيّق للغاية، إذ ينتهي كل اصطدام، باتفاق يؤمّنُ للرئيس التركي الظفر من الغنيمة بالإياب. والمستغرب أنه لا زال يعاند هذه الحقيقة، ما يلقي المزيد من الظلال على الحس الإستراتيجي لديه، ويعزز قناعة الأتراك بأن الرجل يتوغل في المكابرة ويجازف بأرواح جنوده وأبناء الشعبين العربي السوري والتركي في المنطقة الحدودية، ويجعلهم أمام خطر الموت المحقق والتدمير. ثم إن أردوغان بعد تجربته الطويلة، يعرف منهجية العمل العسكري الروسي، التي تعتمد مبدأ الأرض المحروقة من الجو، لتغطية الثغرات التقنية في التصويب وانتقاء الأهداف، ولو بالحد الأدنى من الحرص على أرواح المواطنين الأبرياء. ويعرف أردوغان أيضاً صعوبة وضع الخيط الرفيع، الذي يفصل -أو لا يفصل- بين القوات الروسية والجيش السوري. فهو الآن، لا يريد أن يعترف بالحقيقة التي تؤكد على استحالة بقائه في الأرض السورية، وأن مثل هذا البقاء، فعل احتلالي لا مستقبل له!
بمحصلة هذه الحقائق، يصبح أمن وسلامة السوريين في محافظة إدلب في مرمى النيران إن اندلعت، وهذا ما يجعلنا نتحسب من هذه الحشود، ونتخوف من تعرض الأشقاء السوريين والأتراك للمزيد من الموت!
تركيا الأردوغانية أدركت على وجه اليقين، أن لا دور لها في صياغة مستقبل سوريا، وأن المسلحين الذين ترعاهم لا ولن يغيروا واقع سوريا وهم لا ولن يؤثروا في مستقبلها السياسي، لأنهم أسوأ وأكثر تخلفاً من النظام السوري الذي يعارضونه. فإن كان أردوغان هو الذي أصعد المسلحين إلى الشجرة، فهو المسؤول عن إنزالهم عنها، وأفضل ما يفعله، هو تصفية الوضع في مدينة إدلب، بتدابير بيضاء لا حمراء، وأن يذهب قانعاً إلى الخيار الذي ارتضاه العالم كله، وهو حسم الوضع في سوريا بمشروع سياسي ترعاه الأمم المتحدة، وليس الدول الإقليمية المنخرطة في الصراع والقادمة من قريب أو بعيد، لكي تحصل على حصصها من “الكعكة” السورية.
ويتمادى أردوغان في الخطأ، إن تحول إلى حرب أخرى في ليبيا، وإلى زج المقاتلين السوريين وسائر المقاتلين الأصوليين في أتون تلك الحرب، لكي يُقتلوا أو يغرقوا في البحر. وبحكم مسؤوليته عن إجهاض انتفاضة السوريين، ذات المضامين الاجتماعية، وهي مسؤولية تضاهي مسؤوليات الإيرانيين والروس، يتوجب عليه العمل على تسوية أوضاعهم فرداً فرداً. فلا الطريق إلى دمشق مفتوحة، ولا منطق احتلال جزء من الأراضي السورية مُجديًا وعمليا أو مأمونا، ولا الذي فتح المسارب الواسعة للمتطرفين، جديرا بالمشاركة في عملية سياسية أو بأخذ استشارته في شيء.
الحوار بين الروس والأتراك، بدا كصراع الأفاعي، يهدأ ثم يعود إلى سخونته. ففي الأيام الأخيرة، تصاعدت الخلافات بين الطرفين، وترافقت مع تحشيد وتحشيد مضاد، على الرغم من البديهيات التي أشرنا إليها، وأهمها أن هامش الحركة التركية ضيق ومحدود، ولا يملك أردوغان أن يجر بلاده إلى حرب مع روسيا. فإن حدث أي انزلاق أدى إلى تصعيد، سرعان ما سيضطر إلى التراجع، لأن تجربته في حرب سوريا، اتسمت بسلسلة من التراجعات الإستراتيجية، حتى تضاءلت إلى الحد الأدنى أوجه الشبه، بين موقفه اليوم وموقفه قبل ست أو سبع سنوات.
قد يكون التحشيد العسكري الجديد، محض رسالة لأطراف دولية، موصولة بمأزق الأميركيين في العراق، وما يحمله هذا المأزق على مستوى النوايا، من احتمالات التركيز على عمل عسكري أميركي في شمالي شرق سوريا. ويخطئ أردوغان إن كان قد استأنس بهذه الاحتمالات، فدفع المزيد من قواته إلى الحدود، وهدفه تطيير رسائل إلى أطراف دولية. فاللاعبون على المسرح محدودون، والمتابعون ليسوا لاعبين، وبالتالي إن الطرف الذي أمام أردوغان هو روسيا وليس غيرها!
الحشود التركية المرصودة، تدق أجراس الخطر، علماً بأنها لن تأتي بنتيجة سوى جلب المزيد من الموت والدمار والبؤس. فقبل يومين دخل رتل تركي من 30 آلية عبر معبر “خربة الجوز” حسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان” ليصبح عدد الآليات التي دخلت إلى الأراضي السورية، بعد اتفاق وقف إطلاق النار مع الروس، قرابة 2500 آلية، مع عدة آلاف جديدة من الجنود. ذلك بالتوازي مع حشد وأرتال تابعة للمعارضة السورية المسلحة، بالإضافة إلى آلاف الجنود. وأكد المصدر أيضاً على دخول رتل عسكري لفصائل المعارضة من منطقة عفرين، يتألف من 55 آلية، وكانت وجهته الاقتراب من نقاط المراقبة التركية، التي عززت تحصيناتها بكتل إسمنتية. فالطرفان، التركي من جانب، والروسي السوري من جانب آخر، ماضيان في الأعمال الهندسية الحمائية، حول مواقع تمركزيهما في المنطقة، أما وضع المدنيين فقد عاد إلى النزوح، إذ لا هندسة ولا شيء يحمي المواطن السوري، في حال أية مواجهة يعقبها وقف لإطلاق النار.
المشهد العبثي في شمالي سوريا، لا يزال يُفاقم الكارثة. فوكالة الأناضول التركية نفسها، تتحدث عن 1800 قتيل مدني في الجولات الأخيرة، ونزوح 942 ألفاً إلى مناطق حدودية أخرى، وهؤلاء لا زالوا عرضة للنيران. وتقول الوكالة، إن الضحايا قضوا بفعل قصف الطائرات الروسية وتلك التابعة للنظام السوري، وكلٌ من طرفي الاشتباكات، ينحو باللائمة على الآخر، لكن الطرفين مسؤولان عن إزهاق أرواح الناس وتشريدها.
أمام كل هذه الوقائع والمآسي يصح السؤال الكبير: ما الذي يريده النظام التركي من سوريا؟
عدلي صادق – كاتب وسياسي فلسطيني – صحيفة العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة