لا يزال المسؤولون في موسكو يحاولون حتى اليوم وضع إطار تنفيذي لنتائج مؤتمر عودة اللاجئين السوريين الذي عقد في دمشق في 11 و12 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي كمحاولة مخلصة نيابة عن النظام السوري الذي يفترض أنه مهتم بمصير مواطنيه. ورغم ذلك فإن هذا النوع من السلوك على وجه التحديد هو الذي يغرق السوريين في الارتباك والحيرة، خاصة بين أصحاب الفكر في البلاد الموالين للأسد ولسان حالهم يقول: ما الذي يدفع روسيا إلى الاستمرار في اللعب جنباً إلى جنب مع دعاية الأسد إذا كان بوسعها أن تتخذ موقفاً محسوباً وأكثر دقة؟
الواقع أنه حتى الموالون للنظام السوري الذين غادروا البلاد إلى موسكو ووجدوا فرص العمل في شبكات الدعاية بما في ذلك محطة التلفزيون الروسي «آر تي»، ووكالة الأنباء الرسمية «سبوتنيك»، يعترفون بسلبيات السردية الروسية. ولا تنتهي المشكلة بالمحادثة بين الصحافيين والمترجمين الذين شككوا في الأغراض الحقيقية للمؤتمر الذي وجد طريقه إلى إذاعة «آر تي العربية» عن طريق الخطأ، ولذلك ما زالت المشكلة تتعمق لتنبع من الآراء الحقيقية للسوريين بشأن الدور الذي تلعبه روسيا في البلاد.
خلال إقامتي المطولة في سوريا في نهاية عام 2018، سنحت لي فرصة لسؤال المسؤولين المحليين جميع الأسئلة غير المريحة التي تبحث عن إجابات صادقة. ومن المثير للاهتمام أن السوريين لم يعربوا في البداية عن العصبية إزاء استفساراتي، بل كان الصحافيون ورجال الأعمال الروس في الوفد هم من أبدوا امتعاضاً من أسئلتي. ولم يحاول السوريون تحاشى القضايا الشائكة التي ناقشتها معهم سراً، بل إنهم ألقوا باللائمة على «الإرهابيين ورعاة الإرهاب»، فضلاً عن «الليبراليين في موسكو»، وكان السوريون الذين نظموا الرحلة يربتون على كتفي بابتسامة ظاهرة. فقد كان المسؤولون السوريون يولون اهتماماً بالأسئلة ولا يتجاهلونها، وهذه هي القفزة الكبيرة.
تحدثت مع موظف سوري في محطة الإذاعة الروسية، والذي كرر تلك العبارات الدعائية الروسية القديمة حول «الديمقراطية السورية»، التي تسير جنباً إلى جنب مع «التسامح الديني» الذي يسود البلاد. وباعتباره متحدراً من «عائلة سنية متدينة من حلب الشرقية»، فقد قوبلت قصص ذلك الموظف باهتمام بالغ من جانب وفدنا، لكن كان من الجدير بالملاحظة أن أحداً منا لم يرَه يصلي قط. وفي صباح أحد الأيام، قمنا بنزهة بالقرب من الجزء المدمر والمهجور من حلب الشرقية وقلت له مازحاً إنه إذا كانت سوريا تتمتع حقاً بالحرية والديمقراطية كما أخبرنا، فبوسعه أن يمزق أمامنا تلك اللافتات التي تحمل وجه بشار الأسد الذي يزيّن الشارع. وكانت إجابته لافتة حقاً، حيث قال بنبرة مازحة: «هل تريدني أن أتلقى رصاصة؟».
ثمة مفارقة أخرى تتلخص في أن الدعاية الروسية باتت تنظر إلى النخبة السورية «الودودة» بمثابة الدليل أمام فئة من الشعب الروسي الذي يدعم السلطة الحاكمة – المعروفة باسم «أغلبية بوتين» – على أن النظام السوري ليس مسؤولاً عن أعمال القمع السائدة داخل سوريا. وليس من قبيل المصادفة أنه حتى مجتمع الخبراء الروسي ظل لسنوات طويلة يرى أن الأسد عاش بمعزل عن المعلومات، وهو الفراغ الذي يحرسه زمرة الجنرالات. لكن الوقع ظهر مختلفاً بعض الشيء، ففي إحدى المناسبات رأيت أحد المسؤولين السوريين يرد على مكالمة هاتفية من الرئيس السوري أثناء أحد الاجتماعات. فقد بات من الواضح أن الأسد لديه القدرة المباشرة على الوصول إلى مرؤوسيه بدلاً من تلقي معلومات غير مكتملة وثانوية، كما كان يعتقد الكثيرون.
وفي وقت لاحق، ازدادت قناعتي بأن هناك مطلباً بالنيابة عن سوريين في اللاذقية ودمشق بعمل دعاية أكثر دقة من تلك التي تم الترويج لها وتشجيعها من قِبَل وسائل الإعلام الروسية. وفي هذا السياق، اندلعت حرب العلاقات العامة في الربيع، وكانت تلك الحرب تشتمل على طوفان من المقالات التي تحتوي على انتقاد لبشار الأسد. وجرت الحملة من خلال وسائل الإعلام المملوكة ليفغيني بريغوين، رجل الأعمال الروسي الذي يشرف أيضاً على الشركات العسكرية الخاصة. وكانت الحملة بمثابة مانع صاعقة للمظالم المتراكمة لدى عامة الناس. كما أثارت الحملة موجة رفض مضادة نيابة عن دمشق تجاه موسكو. ومع ذلك فإن منشورات وسائل الإعلام الروسية لم تكن مستلهمة من النشاط الصحافي الذي حثهم على فضح فساد الأسد ومشاكله الاقتصادية في سوريا، بل كانت المنشورات خاضعة لإشراف ناشطين سياسيين سعوا إلى تعزيز «الحملة ضد الفساد» في بعض وسائل الإعلام السورية. وقد سمح ذلك بتحويل تركيز النقد العام بعيداً عن السلطات وعن رجال أعمال مثل رامي مخلوف.
في ظاهر الأمر، تنسجم محاولات النظام محاكاة الكفاح ضد الفساد، وإعلان العفو وتوسيع نطاق التعبير الحر وحتى انتقاد النظام القضائي، مع النهج الروسي لإضفاء الشرعية على حكم الأسد. فضلاً عن ذلك، ووفقاً للسرد الشعبي، فإن موسكو هي التي دفعت النظام السوري إلى هذه الأفعال. على سبيل المثال، ينظر البعض إلى إعلان السلطات العفو المحلي قبل انعقاد مؤتمر اللاجئين باعتباره نتيجة للضغوط التي مارستها موسكو والتي جاءت في هيئة زيارة قام بها ألكسندر بستريكين، رئيس لجنة التحقيق في روسيا، إلى دمشق في شهر أكتوبر (تشرين الأول). لكن هذه النسخة من الأحداث من غير الممكن أن تظل سارية في مواجهة مع الواقع، ولن تكون المرة الأولى التي يعلن فيها الأسد عفواً عاماً في الخريف، ولم تكن زيارة بستريكين حدثاً غير مسبوق، حيث قام بزيارات منتظمة إلى سوريا من قبل. وكانت لجنة التحقيق الروسية قد وجهت في مناسبات سابقة اتهامات (غيابية) إلى مقاتلي تنظيم «هيئة تحرير الشام» أو حتى الجنود الروس الذين خرقوا قواعد السلوك.
ولذلك فإن موسكو لم تفشل في ركوب موجة «ذوبان الجليد المزيف» في السياسات الداخلية السورية فحسب، إذ إنه بعد مرور خمس سنوات من التدخل لا تزال تصرفات موسكو في المنطقة يُساء فهمها من قِبَل السوريين العاديين الموالين لنظام الأسد، ولذلك حار السوريون في تخمين أسباب ارتباك روسيا في دعم حلفائها. كما يشير السوريون إلى أن غياب الحوار الاستراتيجي بين موسكو ودمشق من شأنه أن يساعد على تسليط الضوء على العوامل التي تجعل روسيا مترددة قبل اتخاذ قرارات حاسمة بشأن الأمور التي تتعلق بـ«الاستقرار» السوري و«الأمن». والمشكلة في كل الاحتمالات تكمن في أن الكرملين ذاته لا يملك حلاً لهذه المشكلة. إن القضية الحقيقية في التعامل مع حلفاء روسيا تتلخص في أن الكرملين إما أن يظل متسامحاً مع مشاريع حلفائه، أو يحاول إدارة الأمر بحسم إلى الحد الذي قد يؤدي إلى حدوث ردود فعل مضادة. والواقع أن سوريا أصبحت أكثر أهمية بالنسبة لروسيا، أكثر مما تشكل روسيا بالنسبة لسوريا.
وهذا الفهم الخاطئ يشكل المفارقة الرئيسية في العلاقات بين روسيا وسوريا. ونتيجة لذلك، تتأرجح دمشق في مرحلة ما بعد الصراع بين نهج محاكاة الاستقرار داخل البلاد – وخيار «الواجهة» الإصلاحية الأكثر تقدماً والمصالحة مع التشكيلات المعارضة الموالية كما تدعو موسكو – وتحاول دمشق دفع المسار الثالث الذي قد يكون بمثابة نهج ثالث لهذين النهجين.
وهذا يعني في جوهره إجراء انتخابات تنافسية وديمقراطية من دون أي إصلاحات جوهرية. ويبدو أن الكرملين قد نجح في صياغة هذا النهج. وكما زعم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أثناء رحلته إلى سوريا في سبتمبر (أيلول)، فإن الانتخابات الرئاسية في سوريا لا ترتبط بعمل اللجنة الدستورية. وكان هذا التصريح مثرياً نظراً لحقيقة مفادها أن الدبلوماسيين الروس في السنوات الأخيرة ينظرون إلى الانتخابات الرئاسية 2021 باعتبارها اختباراً للنهج المفضل لديهم في التعامل مع الديمقراطية في سوريا.
أنطوان ماراداسوف – عن صحيفة الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة