قوى الإسلام السياسي بمختلف تفرعاتها في المنطقة اجتمعت على دعم التدخل التركي السافر في طرابلس، ولم تبد أي تحفظ على ذلك، وأكدت بذلك أن لا سيادة للدول ولا حرمة للمجتمعات في عقيدتها.
لا يقول الأتراك كل شيء، ولكنهم كذلك لا يعتمدون السرية التامة في إعداد مشروعهم التوسعي أو البدء في تنفيذه، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه يعملان بكثير من الوضوح في اتجاه إحياء الخلافة العثمانية من خلال التحركات المتزامنة منذ عقدين تقريبا لاستغلال الجانب الثقافي العرقي في إعادة الهيمنة على منطقة شمال ووسط وغرب أوراسيا، ثم الجانب الثقافي الديني الطائفي في اختراق المنطقة العربية، وهذا ما يبدو واضحا خاصة في سوريا وليبيا، وفي اقتحام أسوار الخليج عبر بوابة قطر، والبحث عن موطئ قدم في بحر العرب وخليج عدن عن طريق إخوان اليمن.
استطاع أردوغان أن يخترق دولا عدة من خلال قوى الإسلام السياسي وخاصة تلك التي تشارك في مؤسسات الحكم، أو من خلال الشراكات الاقتصادية والتجارية، وعبر وسائل الإعلام الموجهة، والجمعيات الخيرية والإنسانية، ومن خلال الطابور الخامس الذي يكمن داخل مؤسسات هذه الدولة أو تلك ولا يظهر إلا وقت اللزوم، وكذلك من خلال الدور الذي يقوم به شريكه القطري في تهيئة سبل الاقتحام، إضافة إلى العلاقة الوطيدة مع الإرهاب، حيث ارتبط النظام التركي عبر أذرعه المخابراتية مع أغلب، إن لم يكن مع كل، الجماعات الإرهابية من جنوب الصين إلى شمال نيجيريا، ومثلت له الأوضاع في سوريا والعراق خلال السنوات الماضية فرصة مهمة لفتح جسر التواصل مع الإرهابيين، وتحويلهم إلى أدوات لمشروعه التوسعي من حيث نزولهم في مطاراته، وعبورهم أراضيه، وتنفيذ مخططاته، واللجوء إليه وقت الحاجة، ونجاحه إلى جانب القطريين وأجهزة مخابرات غربية في توحيد الأهداف بين الإخوان وتنظيم القاعدة تحت لواء الخلافة المزعومة في بلاد الشام، وتعاونه الوثيق مع تنظيم داعش عندما كان في حالة تمدد، ثم التخلي عنه لاحقا عندما بات مستهدفا من المجتمع الدولي، مع الاستفادة من فلوله في دعم ميليشياته الناشطة ضد الأكراد، والمقاتلة من أجل الاحتفاظ بمواقع سورية مهمة على الحدود مع تركيا، والتي تبين مؤخرا أن أردوغان يريد لها أن تكون نواة لجيش خلافته، يرسلها للقتال حيث شاء، وكانت أول وجهة لها هي ليبيا التي وصلها إلى حد الآن أكثر من عشرة آلاف مسلح قد يختلفون عرقيا وثقافيا وتنظيميا، ولكنهم يجتمعون تحت لواء المشروع الأردوغاني.
ولعل النظام التركي يستفيد في تنفيذ أجنداته من دوره في حلف الناتو، وعلاقاته الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، ومن قدرته على خوض المساومات حول المصالح مع الروس، وكذلك من خلال تحالفه مع إسرائيل التي يشتمها في العلن ويوثق معها مصالحه في السر كما قال بنيامين نتنياهو نفسه، ومن خلال ابتزازه لدول الاتحاد الأوروبي، واستفادته من العقوبات المسلطة على إيران، ومن دبلوماسية الصفقات التجارية والأعمال الإنسانية وخاصة في أفريقيا وآسيا، وفوق كل ذلك من ترهل النظام العالمي، وتراجع دور الشرعية الدولية، وانكفاء الولايات المتحدة على نفسها، وانهيار النظام الرسمي العربي.
كما يستفيد النظام التركي من احتضانه للإرهابيين الفارين من دولهم، وتحويل تركيا إلى مركز استثمارات الإخوان سواء كانوا لاجئين أو ناقلين لأموال دول يشاركون في حكمها أو يحظون فيها بالاعتراف السياسي، إلى عاصمة الخلافة المزعومة ولمرجعياتها “الشرعية” وأبواقها الإعلامية، ومن اقتناع قوى الإسلام السياسي بأن أردوغان ولي أمر ومرشد عام للمشروع الإسلامي السني وحاضن لكتائب الجهاد، لا يجوز انتقاده ولا مناقشته، ومن حقه ممارسة السياسة وفق المصالح الساعي إلى تحقيقها بعد النجاح في التمكين لمشروعه، ومن هذا المنطلق يتم تبرير كل تصرفات أردوغان بما في ذلك تعاونه التام مع تل أبيب، بأنها تدخل في إطار ممارسة تقية مع العالم لا تختلف مع التقية التي يستعملونها مع شعوبهم.
ولعل الأزمة الليبية قد فضحت كل ذلك، حيث تبين أن قوى الإسلام السياسي بمختلف تفرعاتها في المنطقة اجتمعت على دعم التدخل التركي السافر في طرابلس، ولم تبد أي تحفظ على ذلك، وأكدت بذلك أن لا سيادة للدول ولا حرمة للمجتمعات في عقيدتها، وأن الشعب الليبي لا يعني شيئا بالنسبة لها، مقارنة بعصابات مسلحة تجمع القاتل والسارق والإرهابي، أضاف إليهم أردوغان المرتزقة سواء من المتمردين السوريين باسم الأقليات التركمانية أو باسم التطرف الديني أو المسلحين من متعددي الجنسيات الذين انقطعت بهم السبل في إدلب وريف حلب، ولم يعد لهم مكان آخر يلجؤون إليه، فتم انتدابهم للقتال كمرتزقة في صفوف ميليشيات الخلافة المزعومة في الغرب الليبي.
كما أن دعم جماعات الإسلام السياسي لتدخل أردوغان في ليبيا يحمل في داخله تحديا للدول العربية التي تعارض السياسات التركية، وهو ما يعني أن تلك القوى الملتحفة بغطاء الدين والمذهب مستعدة لدعم أي عدوان تركي ضد أي بلد عربي آخر، ولا ترى مانعا من أن تتحول إلى أدوات لتنفيذ مشروع احتلال عثماني جديد لبلدانها، ما يسقط عنها شرعية الانتماء الوطني، ويصمها بالخيانة العظمى للدول التي تنتمي إليها على الورق ووفق المصالح لا غير، فالإخواني الليبي هو اليوم تركي قبل أن يكون ليبيّا، وكذلك الشأن بالنسبة للسوري والمصري والعراقي وغيرهم.
إن أي قوة من قوى الإسلام السياسي السني في أي بلد عربي هي مرتبطة رسميا بتركيا، دولة وحزبا ومخابرات وميليشيات وتجارة واستثمارات وصيرفة وإعلاما وأجندات، وكلما وصلت واحدة منها إلى الحكم ستفعل ما فعلته قطر أو إخوان ليبيا من جلب للأتراك بسلاحهم ومسلحيهم لحماية سيطرتهم على البلد الذي تحكمه، ضمن مشروع التبعية التامة لوهم الخلافة العثمانية الجديد، وهذا هو التحدي الأكبر الذي على الجميع التنبه إليه، فالمشروع أكبر مما نعتقد.
الحبيب الأسود – كاتب تونسي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة