الجغرافيا السياسية لعبت دورا في جعل مصر رقما رئيسيا في معادلة السلام، وكان يمكن أن تجعلها طرفا في معادلة الحرب.
انزعاج مصري من اجتياح رفح
يرى الكثير من المصريين أن قيادتهم السياسية والعسكرية بالغت في ضبط النفس عند التعامل مع التحركات العسكرية التي تقوم بها إسرائيل في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، وكان يجب عليها أن تستخدم الخشونة لوضع حد لما تقوم به إسرائيل على مرمى حجر من حدودها، حيث بسطت سيطرتها على معبر رفح ورفعت علمها عليه وأنزلت العلم الفلسطيني، وتقوم بعمليات عسكرية مستمرة على محور فيلادلفيا.
لم يفلح الإسراف في خطاب الشجب والإدانة والرفض الرسمي لتصرفات إسرائيل في إقناع شريحة كبيرة من المصريين، ولم تتمكن وسائل الإعلام المحلية التي صعّدت لهجتها من تأكيد أن مبدأ “كل السيناريوهات” مطروحة على الطاولة يشمل السيناريو العسكري بعد غلق معبري رفح وكرم أبوسالم، ما يعني توقف دخول المساعدات من الأراضي المصرية إلى غزة، واختراق معاهدة كامب ديفيد وملحقاتها التي تمنع تواجد قوات إسرائيلية ثقيلة في المنطقة (د).
حدثت اختراقات إسرائيلية عدة منذ اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر الماضي، ولجأت مصر إلى الرد عليها بطرق مختلفة، ولم تنقل وسائل الإعلام بعض الوقائع، لأن كل طرف حرص على عدم التصعيد خوفا من اتساع نطاق الحرب، كما أن غالبية الردود حملت إشارات يفهما كل طرف بالصورة المناسبة له.
توقفت الرسائل الخشنة والمتبادلة في الخفاء ولم يظهر على السطح جفاء، لأن الولايات المتحدة خشيت أن يخرج الأمر عن نطاق السيطرة، في خضم حروب إعلامية وسياسية متعمدة حاولت جر مصر إلى معركة مع إسرائيل، لا تريدها في الوقت الراهن.
استخدم من وقفوا خلف هذه الحروب خطاب القيادة والدور الإقليمي لحث القاهرة على الزج بها، والتهديد والتقزيم تارة أخرى لدفعها إلى المشاركة، وصمدت مصر وفهمت رسائل الآخرين، فهي لا تريد خوض معركة لم تختر زمانها ومكانها، ولم تخترق إسرائيل أمنها القومي بالطريقة التي تستحق الرد مباشرة.
وحدّدت القيادة المصرية ما أسمته بـ”الخط الأحمر” منذ اليوم الأول للحرب وحافظت عليه إسرائيل، طوعا أو قسرا، حيث رفعت القاهرة مبكرا شعار منع توسيع نطاق الحرب، وعدم تحويلها إلى صراع إقليمي منفلت وتصعب السيطرة عليه، وأسهمت بفاعلية في عملية الوساطة لتقريب المسافات بين إسرائيل وحركة حماس، بالتعاون والتنسيق مع كل من الولايات المتحدة وقطر.
لعبت الجغرافيا السياسية دورا في جعل مصر رقما رئيسيا في معادلة السلام، وكان يمكن أن تجعلها طرفا في معادلة الحرب، وهو ما انتبهت إليه القاهرة فاختارت ما يتماشى مع توجهاتها السياسية المرحلية، وهو السلام، من دون أن تتغاضى عن التوجهات الأخرى (الحرب) من خلال الإعلان دوما عن جاهزيتها العسكرية واستنفار جيشها وزيادة تحركات قواته في المناطق القريبة من الحدود مع غزة وإسرائيل.
يمكن فهم المبالغة في ضبط النفس عبر يقين ثابت لدى القيادة المصرية يتمثل في شعورها منذ اندلاع الحرب بأن الدولة مستهدفة، حيث كان من المخطط أن ينتقل إليها مئات الآلاف من الغزيّين للتوطين في سيناء، أما الثابت فهو أن هناك قناعة تامة بعدم الدخول في حروب إذا أمكن تحاشيها قدر الإمكان، والسعي نحو تجنبها طالما لا يوجد اعتداء مباشر على الأمن القومي المصري، وقد حدث ذلك مع أزمات ليبيا والسودان وإثيوبيا، ومع الحوثيين في جنوب البحر الأحمر.
يقول البعض إن الأمن القومي المصري تعرض لأضرار وتأثر بشكل غير مباشر في هذه المناطق ولم تتحرك القاهرة، ويأتي الرد على لسان مصادر مسؤولة: إن الاشتباك مهمة من الصعب معرفة حدودها. كأن هناك تيقّنا من وجود مؤامرة تنتظر إرسال مصر قواتها إلى خارج أراضيها، وما جعل ضبط النفس تجاه إسرائيل يفوق مستوى الصبر الإستراتيجي هو أن مصر فعّلت أدوات أخرى لتحول المسألة من عقدة إلى حل.
وتعمل القيادة المصرية على استكمال مشروعها التنموي، وتعلم أن أي حرب تدخلها على الجبهات الإستراتيجية، الشرقية والغربية، والشمالية والجنوبية، معناها وقف هذا المشروع والعودة إلى الخلف سنوات طويلة، وأصبح التأني مع إسرائيل وغيرها خيارا ومنهجا، لأن البديل المادي مكلف جدا، ويمكن تجنبه بالمزيد من المرونة التي اختزلت في عبارة “ضبط النفس” والمبالغة في ترديدها.
◙ ثمة تفاهمات غير معلنة للحدود التي سوف تصل إليها العملية العسكرية، تجعل مصر غير منزعجة رسميا وتترك مهمة النقد للإعلام
جست إسرائيل نبض مصر حيال دخول رفح والبقاء على محور فيلادلفيا أكثر من مرة الأسابيع الماضية ثم تراجعت، ووجدت أخيرا أن الإجراءات الأمنية التي يمكن أن تقوم بها تنطوي على فوائد سياسية في تهدئة اليمين المتطرف الذي يفضل اجتياح رفح على توقيع صفقة الأسرى، وفي الضغط على حماس في المفاوضات، فلدى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ثقة في أن الضغط العسكري على الحركة يجبرها على الاستجابة لمطالبه، وهو ما لم يحدث بعد دخول الحرب شهرها الثامن.
وتسلحت إسرائيل بجرأة ظاهرة حيال دخول معبر رفح ومحور فيلادلفيا للرد على ما تردد في بعض وسائل الإعلام بشأن خرق اتفاقية كامب ديفيد، في اعتقاد تل أبيب أن ما قامت به مصر من قبل في معركتها ضد الإرهابيين في سيناء خطوة نوعية تتعارض مع اتفاقية السلام معها، حيث أدخلت معدات عسكرية إلى مناطق غير منصوص عليها فيها، ووافقت إسرائيل على ذلك صراحة أو ضمنيا، وهو ما ردت عليه في الأراضي الفلسطينية القريبة من الحدود مع مصر التي عليها أن تقبل بعمليات تقوم بها تل أبيب في هذه المنطقة كما قبلت ما قامت به القاهرة في حربها ضد الإرهاب.
وبدت مصر هادئة في نظر البعض عند التعامل مع ما تقوم به إسرائيل في مدينة رفح، لأنها لا تريد منح ذريعة لأحد لتخريب محادثات كانت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق نتيجة إيجابية في الأيام الماضية، وعلى دراية بأن الولايات المتحدة لن تقبل اجتياحا كبيرا ووقوع المزيد من الخسائر البشرية وسط كتلة سكانية فلسطينية تصل إلى نحو 1.5 مليون نسمة في رفح وحدها، وفهمت أن العملية العسكرية جراحية ومحدودة، وقد تدخل في بند الدعاية السياسية واستعراض القوة الذي يجيده نتنياهو.
تعطلت أو تباطأت المفاوضات في القاهرة، وبدت مواقف الإداراة الأميركية متناقضة وأمْيل إلى دعم عملية عسكرية في رفح، صوت “الكابينت” لصالحها أخيرا، ولا تزال مصر تحافظ على سردية ضبط النفس، ما أدى إلى تكهنات بأنها تمانع الدخول في مواجهة من أي نوع مع إسرائيل وحريصة على السلام معها.
ويبدو أن ثمة تفاهمات غير معلنة للحدود التي سوف تصل إليها العملية العسكرية، ما يجعل مصر غير منزعجة رسميا وتترك لوسائل الإعلام مهمة التنديد ليصبح الموقف متوازنا، والذي يقوم على رفض الاشتباك مباشرة ورفض العمليات العسكرية في رفح، ما يشي بأن القاهرة مرغمة على أو منهمكة في الدفاع عن مصالحها الخالصة، مع أن التاريخ أثبت أن هذه المسألة (المصالح) غير منفصلة عما يجري في فلسطين.
محمد أبوالفضل – كاتب مصري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة