لأكثر من عقد من الزمان اعتبر الكثير من اللبنانيين الدعم السعودي من المُسلمات وردوا المعروف بالإساءة وناصروا أعداء المملكة وفي مقدمتهم إيران والتي لا تستثمر شيئًا في الاقتصاد اللبناني.
الرياض ضاقت ذرعا من سطوة حزب الله على لبنان
من الوارد أن المملكة العربية السعودية قد وجهت ضربة اقتصادية قاتلة لحكام لبنان، حزب الله ومن معه من الأقلية الحاكمة، من خلال تقليص عدد ممثليها الدبلوماسيين وإغلاق الأسواق السعودية في وجه الصادرات اللبنانية. وفي حين أنه من الجميل التفكير في الخطوة السعودية على أنها رسالة لفت نظر وتنبيه للبنانيين، إلا أنه من غير المرجح أن تغير الأقلية الحاكمة من تصرفاتها بناء على سلوكياتها السابقة، وستستمر على الأرجح في سياساتها التي جُربت وفشلت، والتي لم تولد سوى الانهيار الاقتصادي والبؤس.
وربما يبدو أن تصعيد الرياض كان نتيجة تصريحات أدلى بها وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي والتي ألقى فيها باللوم على عاتق دول الخليج بشأن الحرب في اليمن، قائلاً إن الحوثيين، الذين أشعلوا الحرب باحتلالهم للعاصمة صنعاء، كانوا يدافعون عن أنفسهم فقط ضد العدوان السعودي.
واشتهر قرداحي قبل توليه منصب وزير الإعلام بتقديم برامج مسابقات على الشبكات السعودية، وتُعد معرفته بأمور السياسة قليلة، ودرايته بصياغة القرارات السياسية أقل.
ولا يمكن أن تغير تعليقات قرداحي وحدها، التي صدرت قبل عدة أشهر من توليه منصبه كوزير، من الموقف السعودي تجاه لبنان، ولكنها كانت المسمار الأخير في نعش العلاقة بين البلدين التي كانت مزدهرة ذات يوم، والتي شهدت تدهوراً كبيراً على مدى السنوات القليلة الماضية، ويرجع السبب في ذلك إلى نفوذ حزب الله المتزايد في لبنان وسيطرته الكاملة على مفاصل السياسة اللبنانية.
وكلف القرار السعودي الصادرات اللبنانية أكثر من ربع مليار دولار سنويا، كون السعودية هي رابع أكبر أسواق لبنان الخارجية، كما سيخسر لبنان استثمارات الرياض الأجنبية المباشرة، والتي وصلت في عام 2015 إلى ما يقرب من مليار دولار، ومن خلال منع السعودية لرعاياها من السفر إلى لبنان، ربما خوفًا من الأذى أو المضايقات من قبل حزب الله، ستحرم الرياض بيروت من تدفق العملات الأجنبية والتي هي في أمس الحاجة إليها، والتي يصرفها السياح السعوديون في الأسواق اللبنانية.
وكان وقف الصادرات اللبنانية إلى السعودية قيد الإعداد لفترة طويلة بعد أن قبضت السلطات السعودية على شحنات من المخدرات قادمة من لبنان، والتي غالباً ما يتم إخفاؤها في المنتجات. وتعد تجارة المخدرات واحدة من أكبر الموارد التي تُدر على حزب الله الكثير من الأموال. وقد طلبت المملكة العربية السعودية من الحكومة اللبنانية فرض ضوابط أفضل على معابرها الحدودية للتأكد من خلو الصادرات من المواد غير المشروعة، ولكن السلطات اللبنانية أثبتت أنها أضعف من أن تعترض أي شحنة من حزب الله تدخل أو تخرج من البلاد، وفي ظل هذا الفشل، قررت الرياض وقف وارداتها من لبنان.
ومع ذلك، تحلت الرياض بحس المسؤولية ومراعاة الجانب الإنساني من خلال التمييز بين حكام بيروت واللبنانيين الذين يعيشون ويعملون على أراضيها، حيث تشير التقديرات إلى أن المملكة تحتضن 300 ألف لبناني، مما يجعلهم أكبر جالية لبنانية في الخارج، وتساعد تحويلات هؤلاء المغتربين في منع مئات الآلاف في لبنان من الوقوع في براثن الفقر.
وقد تسامحت الحكومة السعودية لفترة طويلة من الزمن مع سياسات لبنان الجاحدة والتصادمية مع المملكة.
وقد التمست الرياض العذر للدبلوماسية اللبنانية بعد مخالفتها للإجماع العربي في جامعة الدول العربية من خلال الامتناع عن التصويت على قرار يدين النظام الإيراني لإحراق السفارة السعودية في طهران والقنصلية السعودية في مدينة مشهد في عام 2016.
وعندما قادت فرنسا في عام 2018 مؤتمر المانحين لمساعدة الاقتصاد اللبناني المنهار برزت المملكة العربية السعودية كأكبر مانح، حيث تعهدت بدفع مليار دولار من إجمالي الـ11 مليار دولار، وقدمت الولايات المتحدة مليار دولار من جانبها، ودفعت بقية دول العالم باقي المبلغ. وفي ذلك الوقت، وعلى الرغم من تحفظاتها على معاداة حزب الله للسعودية وتواطؤ الحكومة اللبنانية مع الميليشيات الموالية لإيران، إلا أن الرياض غضت الطرف ومدت لبنان بشريان الحياة الذي تم تصميمه لمساعدة البلاد على الإصلاح وإعادة إعمار اقتصادها. لكن ثبت أن الحكومة اللبنانية أضعف من أن تنفذ أي إصلاحات مطلوبة قبل تلقيها لأموال المساعدات، وعليه غرق اقتصاد البلاد في ركود أعمق ويعاني الآن من تضخم متفاقم وفقر متزايد.
ومنذ خمسينات القرن الماضي كانت السعودية من أكبر الداعمين والمؤازرين للبنان ولاستقراره، ففي عام 1989 استضافت المملكة العربية السعودية وأدارت اتفاق الطائف الذي أدى إلى نهاية الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عامًا. وبعد أي صراع، كما هو الحال بعد كل جولة حرب مع إسرائيل، كانت المملكة العربية السعودية دائمًا أول من يقدم تبرعات للبنان لإعادة الإعمار ولإيداع العملات الأجنبية في البنك المركزي اللبناني للحفاظ على الاقتصاد، والأهم من ذلك للحفاظ على العملة الوطنية من الانهيار.
ولأكثر من عقد من الزمان اعتبر الكثير من اللبنانيين الدعم السعودي من المُسلمات، وردوا المعروف بالإساءة وناصروا أعداء المملكة، وفي مقدمتهم إيران، والتي لا تستثمر شيئًا في الاقتصاد اللبناني.
وقد عُرف حكام لبنان بالسعي وراء مصالحهم الشخصية على حساب المصالح الوطنية، وطالما أن حزب الله هو من يقرر من يحكم لبنان، فإن الحكومة اللبنانية ستساير إيران على حساب مصالح البلد، ومصالح البلد هي في العمل مع السعودية بدلاً من العمل مع الجانب الآخر. ومن المؤسف أن اللبنانيين لا يدركون ذلك، أو أنهم يدركونه ولا يفعلون شيئا حياله.
حسين عبدالحسين – باحث متخصص في شؤون الشرق الأوسط والخليج – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة