اجتياح رفح محاط بأسوار عالية؛ فهو عملية أمنية مصيرية لكن التحديات التي تواجهها مفتوحة وإذا كانت كل عمليات إسرائيل السابقة مرت بقليل من الانتقادات الغربية فإن وضع رفح سيكون مختلفا.
هل تحول الخسائر البشرية دون اجتياح رفح
كثر الحديث حول قيام القوات الإسرائيلية باجتياح مدينة رفح في جنوب قطاع غزة خلال الأيام المقبلة، وكثر الحديث أيضا عن الألغام العسكرية والكوابح السياسية التي تعترض طريقها، ما جعلها عملية مفخخة وقد لا تحقق أهدافها، من حيث القضاء على قوة عسكرية ضاربة لا تزال تملكها حركة حماس في هذه المنطقة، وغموض القدرة على إجبار هذه القوة على الاستسلام والموافقة على عودة الأسرى والمحتجزين الذين يمثلون منغصا سياسيا كبيرا لرئيس حكومة الحرب بنيامين نتنياهو.
يلوّح نتنياهو بهذه العملية بصورة مستمرة لتأكيد أن أي صفقة سيعقدها مع حماس لن تثنيه عن استمرار الحرب أو توقفه عن اجتثاث القوة العسكرية التي تملكها الحركة، وطمأنة جناح المتطرفين في حكومته بأنه لن يتراجع عن المطالب الرئيسية المتعلقة بإنهاء ظاهرة المقاومة في غزة بعد أن تمكنت من تحقيق أكبر خدعة لإسرائيل وكبدت الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة، وإلا ستكون أكثر من ستة أشهر أمضاها في الحرب لم تحقق أغراضها قد ذهبت هباء من الناحية الأمنية، وتكرس إحدى أبرز العقد في تاريخ إسرائيل، والقوى الغربية التي ساندتها منذ بداية الحرب.
◙ صوت الرفض بات مسموعا داخل الاتحاد الأوروبي ودول رئيسية فيه، وصل إلى درجة احتمال اتخاذ إجراءات مادية قاسية ضد إسرائيل، ودعم خيارات سياسية مؤيدة للسلطة الفلسطينية
يعلم نتنياهو وقادة الجيش الإسرائيلي أن اجتياح رفح لن يكون نزهة عسكرية تنتهي في بضعة أيام أو عملية سهلة يمكن بموجبها تنظيف جيوب حماس المتمركزة فيها، فتجربة الأشهر الستة الماضية في شمال القطاع ومدينة غزة في الوسط وخان يونس في الجنوب مؤلمة، فبعد تأكيدات حول القضاء على عناصر المقاومة لا تزال الصواريخ تطلق على غلاف غزة، والاشتباكات المسلحة لم تتوقف.
وهو ما يعني أن المقاومة في رفح يمكن أن تصمد فترة طويلة، ربما تفوق غيرها، حيث استفادت عناصرها من معارك القطاع الأخرى وظلت رفح بعيدة نسبيا عن الاستهداف الجوي والأرضي بكثافة، ما يشير إلى معارك صعبة يمكن أن تشهدها منطقة باتت ملاذا للكثير من عناصر كتائب عزالدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس.
ودخل نتنياهو اشتباكا سياسيا مع الإدارة الأميركية مؤخرا بسبب تفسيرات متباينة لعملية اجتياح رفح، ولا تزال خيوط الاشتباك ممتدة مع تصاعد حدة الخطاب الذي يستخدمه الرئيس جو بايدن وعدد من أركان إدارته رفضا لخطوة ربما تفجر أزمات كبيرة.
وظهرت علامات التوتر بين الجانبين بشكل غير معهود سابقا، ووصلت إلى حد التلويح بممارسة المزيد من الضغوط السياسية، إذ تنظر واشنطن إلى عملية عسكرية كبيرة في رفح بنوع من الريبة والتخوف من فتح الباب لمشكلات إنسانية أكبر، بعد حدوث انقلاب كبير في موقف المجتمع الدولي والداخل الأميركي.
ويمكن أن يعاقب الناخبون بايدن في الانتخابات المقبلة، ويقوم مؤيدوه في الحزب الديمقراطي بما يوصف بـ“التصويت العقابي” لصالح خصمه اللدود المرشح الجمهوري دونالد ترامب، إذا استمر موقف الأول لينا حيال نتنياهو، ولم يتخذ إجراءً صارما للتهدئة وتخفيف وطأة الدمار في القطاع والإبادة الجماعية الملحوظة فيه.
◙ نتنياهو يلوّح بعملية رفح بصورة مستمرة لتأكيد أن أي صفقة سيعقدها مع حماس لن تثنيه عن استمرار الحرب أو توقفه عن اجتثاث القوة العسكرية التي تملكها الحركة
لم ينقلب جو بايدن على نتنياهو تماما حتى الآن، والتغير الحاصل في خطابه المعلن أو حتى التوتر لا يشيران إلى وجود رفض قاطع لاجتياح رفح، بل خشية من أن تفضي عملية واسعة إلى المزيد من الحروق السياسية والأمنية في جسم إسرائيل، وبالتالي الولايات المتحدة؛ فما تريده واشنطن هو توفير ضمانات لتقليل الخسائر البشرية في صفوف المدنيين الفلسطينيين، لأنها لن تستطيع تحمل إدانات واسعة مباشرة لها، ما يلحق أضرارا أكبر بصورتها التي تأثرت فعلا بأخطاء نتنياهو، وكل ما تريده ضبط تصرفاته بما لا يجعلها عشوائية فترتد تأثيراتها على إسرائيل والولايات المتحدة.
ولذلك يتطلب التعامل مع رفح قدرا من الخشونة والليونة معا، فالعملية العسكرية تكون انتقائية ومتقنة ومحدودة، ويجب أن تتوافر لها سبل الحماية اللازمة للمدنيين من خلال توفير ملاذات آمنة لأكثر من مليون فلسطيني يقبعون في رفح، وتسهيل دخول المساعدات بكثافة برا وبحرا وجوا لتبدو إسرائيل متجاوبة مع تحفظات وممانعات المجتمع الدولي، ولا تفقد الإدارة الأميركية سطوتها على حكومة نتنياهو.
تتصرف واشنطن بطريقة متوازنة كي لا تجلب ضررا سياسيا لها أو لتل أبيب يصعب إصلاحه لاحقا، فالعيون مصوّبة نحو رفح وما يمكن أن يحدث فيها من عملية انتقامية، تعتبرها إسرائيل ضرورية ومحطة أخيرة في مواجهتها القاسية مع حماس.
وأصبح اجتياح رفح محاطا بأسوار عالية؛ فهو عملية أمنية مصيرية لكن التحديات التي تواجهها مفتوحة، وإذا كانت كل عمليات إسرائيل السابقة مرت بسلام أو بقليل من الانتقادات الغربية، فإن وضع رفح سيكون مختلفا بعد أن خرجت بعض القوى عن صمتها وعدم مباركتها لما تقوم به إسرائيل بذريعة الدفاع عن النفس.
وقد بات صوت الرفض مسموعا داخل الاتحاد الأوروبي ودول رئيسية فيه، وصل إلى درجة احتمال اتخاذ إجراءات مادية قاسية ضد إسرائيل، ودعم خيارات سياسية مؤيدة للسلطة الفلسطينية، أبرزها تأييد إعلان دولة مستقلة من جانب واحد، وهو مسار يضع إسرائيل في مأزق يحتاج الخروج منه وقف عملية رفح أو التسليم بها.
وتؤكد الإشارات المتلاحقة عن عملية اجتياح رفح الفترة الماضية من دون إتمامها عمق المخاوف التي تصاحبها والارتدادات التي سوف تصطحبها، فبعد مضي أكثر من شهر عن التركيز عليها لا يزال نتنياهو يهدد بها، ما أفقدها جزءا من بريقها العسكري وحولها إلى ما يشبه المناورة السياسية، فالصعوبات التي تعتريها لن تستطيع إسرائيل مجابهتها، ولا يعني أنه سيتم إلغاؤها تماما، لكنها قد تختصر في عملية محدودة قصيرة، أو يتم التوصل إلى صفقة تسمح بنقل جزء من سكان جنوب القطاع إلى شماله، وهي عقدة يمكن أن تبدي إسرائيل مرونة معها لتتمكن من التعامل مع القوة المسلحة لحركة حماس في رفح.
وتعلم حماس، ومن ورائها كل فصائل المقاومة، فحوى هذه الحيلة وتتمسك بأن تكون عملية النقل التي تنطوي عليها الصفقة المنتظرة ليست تحت الإشراف الأمني لإسرائيل لتتمكن من تسريب عناصرها إلى الشمال، وهي قضية تدرك قوات الاحتلال أبعادها العسكرية، وسوف تظل رهاناته على تنفيذ خطته التي تتضمن بعدا أمنيا عاجلا في عملية النقل.
بينما تعتقد المقاومة أن الوقت قد يخدمها مع تزايد التذمر الدولي من تصرفات إسرائيل، وتستمر عملية عض الأصابع التي يمارسها الطرفان إلى حين الوصول إلى نقطة فاصلة، لا تستطيع عندها إسرائيل سوى تنفيذ اجتياحها لرفح وتحمّل تداعياته، أو حدوث تحول دولي يجبرها والولايات المتحدة على صياغة معادلة تراجع تدريجي تحفظ لهما ماء الوجه، فالألغام التي تحيط بالعملية قد تؤدي إلى انفجارات مدوية في المنطقة يصعب تحجيمها في المدى القريب.
محمد أبوالفضل – كاتب مصري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة