تاريخ سوريا بدءا من الـ29 من مارس 1949 بني على رفض الأخر المختلف وبقدر ما أوغلنا في هذا الرفض والعداء بقدر ما أوغلت المؤسسات الرسمية في الحديث عن مجتمع التسامح والتآلف والتآخي.
سوريا التي عرفها الخوري، ليست هي سوريا التي نعرفها اليوم
أن تتلقى رسالة من صديق يبدي إعجابه بمقال نشرته أمر عادي يحدث من حين إلى آخر، إلا أن المكان الذي كنت أتواجد فيه عندما تلقيت الرسالة جعل منها حدثا استثنائيا.
الصديق هو الشاعر والرسام السوري منذر مصري، والمقال الذي أشار إليه هو “لهذه الأسباب لن تنهار تونس”. أما مضمون الرسالة التي تلقيتها عبر تطبيق ماسينجر فيقول “ما أتمناه، أن يكتب أحد مقالا، كما مقالك عن تونس.. سوريا باقية رغم كل شيء”.
بالتأكيد لم يكن منذر يعلم أنني في اللحظة التي استلمت فيها رسالته كنت جالسا برفقة صديق تونسي، في شارع يحمل اسم “فارس الخوري”، تفصلني عن سوريا مسافة 2650 كيلومترا.
العزيز منذر، سوريا باقية، وأجيبك بمثل ما أجاب به فارس الخوري المندوب السامي الفرنسي الجنرال هنري غورو، الذي دخل دمشق محتلا بعد خروج الملك فيصل بأسبوعين.
أقام غورو حفل تعارف للمسؤولين السوريين، حضره الخوري، وكان حينها وزيرا للمالية. أقيم الحفل في قصر الملك المطل على العاصمة السورية من منطقة المهاجرين، وامتدح غورو منظر دمشق، ثم نظر إلى القاعة وتحدث مع الوزراء بطريقة استفزازية قائلاً “أهذا هو القصر الذي كان يسكنه الملك فيصل؟”.
صمت الجميع، إلا الخوري الذي أجابه “نعم يا صاحب الفخامة. هذا هو القصر الذي سكنه الملك فيصل، وقد بناه والي عثماني اسمه ناظم باشا، ثم حل فيه جمال باشا، ثم الجنرال اللنبي…ثم فيصل، والآن تحلون فخامتكم فيه. وجميع الذين ذكرتهم أكلنا معهم في نفس هذه القاعة ولكنهم رحلوا… وبقي القصر وبقينا نحن”.
لو كان فارس الخوري يقف اليوم في القصر المشرف على مدينة دمشق يرى ما حدث في سوريا الرازحة تحت خمسة احتلالات، هل كان يؤيد منذر بما ذهب إليه، ويقول إن سوريا باقية رغم كل شيء؟
بالتأكيد كان ليفعل ذلك.
فارس الخوري هو النسخة الأصل للحبيب بورقيبة، وإن لم يتوج زعيما، إلا أن التشابه أكبر من أن يحصى
من هو فارس الخوري، الذي أطلقت تونس اسمه على نهج من أنهجها؟
اختارت تونس أن يكون الشارع الذي يحمل اسم الخوري متفرعا من شارع يحمل اسم الزعيم الحبيب بورقيبة، وعلى بعد بضعة أمتار من تمثال الزعيم التونسي.
فارس الخوري هو النسخة الأصل للحبيب بورقيبة، وإن لم يتوج زعيما، إلا أن التشابه أكبر من أن يحصى.
ولِد الخوري في قرية الكفير على سفح جبل حرمون، ودَرس في مدارسها ثمّ في المدرسة الأميركية في صيدا، حيث تخرّج سنة 1890.
بعد تخرجه عَمل مُدرّساً في مجدل شمس وثم في البترون، قبل أن يلتحق بالجامعة الأميركية في بيروت، ليدرس الرياضيات.
وفي عام 1908، قرر الخوري أن يَدرس الحقوق بشكل شخصي، عبر قراءة الكتب ومعاشرة القضاة والمحامين، دون الانتساب إلى أيّ جامعة. ليصبح مرجعاً عالمياً في القانون الدولي، ويشارك في تأسيس كلية الحقوق في جامعة دمشق. أصبح عميداً لتلك الكلية، يُوقّع شهادات الخريجين، مع أنه لا يحمل شهادة في القانون.
سوريا التي عرفها الخوري، ليست هي سوريا التي نعرفها اليوم. سوريا فارس الخوري قبلت به رئيسا للحكومة، واختارته أيضا وزيرا للأوقاف وهو المسيحي البروتستانتي.
نحن نتحدث عن زمن اتصفت فيه سوريا واتصف أهلها بالتسامح. زمن انتهى بقيام حسني الزعيم بأول انقلاب عسكري في دمشق يوم الـ29 من مارس 1949، واعتقاله الرئيس شكري القوتلي ورئيس وزرائه خالد العظم.
قام الزعيم بحلّ جميع الأحزاب وفي الـ1 من أبريل 1949، أغلق أبواب المجلس النيابي الذي كان الخوري رئيساً له.
عقد نواب سوريا جلسة استثنائية في منزل الخوري، بعد منعهم من دخول المجلس، للتباحث في كيفية التعامل مع الحاكم العسكري الجديد، وكان موقف الخوري واضحاً “لقد اندلعت النيران في البيت، إنّ الواجب والعقل والضمير يفرض علينا أن نتعاون لإخماد النيران أو حصرها قبل أن يشتد لهيبها فتأتي على الأخضر واليابس”.
وعندما عرض عليه حسني الزعيم تولي الحكم، أجابه الخوري “أنا لا أعمل مع العسكر. سامحك الله، لقد فتحت باباً على سوريا من الصعب على التاريخ أن يرده!”.
نعم، يا “ابن حارتي”، معاناة سوريا بدأت قبل 72 عاما، بوصول حسني الزعيم إلى الحكم.
لم يعارض فارس الخوري الوحدة السورية – المصرية في شباط 1958، ولكنه قال لحفيدته الأديبة كوليت خوري “الوحدة لا تُسلق. وهؤلاء سلقوها!”، في إشارة إلى الطريقة الارتجالية التي قامت بها الوحدة على أيدي مجموعة من الضباط الذين توجهوا إلى مصر للمطالبة بها، دون أي قيد أو شرط.
وعندما وقع انقلاب الانفصال يوم الـ28 من سبتمبر 1961، بقيادة المقدم عبدالكريم النحلاوي، سارع الخوري لتأييده عبر بيان نشرته الصحف الدمشقية يوم الـ6 من أكتوبر 1961.
توفي فارس الخوري في الأشهر الأولى من عهد الانفصال، يوم الـ2 من يناير 1962، وكان في سدة الحكم يومها ثلاثة من طلابه القدامى، هم ناظم القدسي رئيس الجمهورية، ومأمون الكزبري رئيس الوزراء، ومعروف الدواليبي رئيس المجلس النيابي، إضافة إلى ابنه الوحيد سهيل فارس الخوري الذي كان وزيراً للشؤون البلدية والقروية. قرر الرئيس القدسي كسر البروتوكول وإجراء جنازة رئاسية لفارس الخوري، خرج فيها نعشه المجلل بالعلم السوري على عربة مدفع، وتقدم المشيعين الرئيس القدسي والرئيس الأسبق شكري القوتلي.
صديقي منذر، لك أن تتخيل أن الفرح والتسامح قد هجرا سوريا بوصول حسني الزعيم للحكم.
تستحق سوريا أن تنتقل من كونها ساحة للاقتتال إلى حديقة للأنواع والأجناس والأطياف. حيث يتباهى كل بلونه، ويزهو بألوان الآخرين
لست هنا لأوجه اتهامات، وأطلق أحكاما، ولكن لأقول إن تاريخ سوريا منذ الـ29 من مارس 1949 بني على رفض الأخر المختلف، وبقدر ما أوغلنا في هذا الرفض والعداء، بقدر ما بالغت المؤسسات الرسمية في الحديث عن مجتمع التآخي والتسامح.
لم تكن سوريا بلدا للتآخي والتآلف إلا في شعارات الحزب الحاكم.
رفعت الحكومات السورية ذكر الدين من بطاقة الهوية، الأمر الذي أثار إعجاب النخب العربية، من المحيط إلى الخليج، ولكنها بإنكارها للاختلاف، زرعت التعصب الديني في عقول السوريين.
عندما درسنا مادة التربية الدينية في سوريا لم نعترف إلا بابن حنبل والشافعي ومالك وأبي حنيفة.
يقولون إن سوريا هي نموذج للتعايش بين الأقليات. وهذه كذبة أوصلت سوريا إلى ما هي عليه اليوم.
الحديث عن التآخي والتسامح رافقه أيضا نشاط آخر هدف إلى إثارة المخاوف، مخاوف مبنية على أوهام وجهل بالآخر.
هذه ليست دعوة إلى التآخي والتآلف، بل هي دعوة للاعتراف أننا مختلفون، ودعوة لقبول الآخر المختلف. وهي أيضا دعوة لقراءة التاريخ بطريقة مختلفة؛ طريقة تركز على الوجه المظلم لهذا التاريخ وتحرك مياهه الراكدة الآسنة.
يجب أن نقبل حقيقة أننا مختلفون. وأننا رائعون بسبب من هذا الاختلاف.
سياسة دفن الرأس في الرمال لن تنفع، فلنخرج رؤوسنا من الحفر حتى وإن أبهر النور أعيننا.
مسألة وقت فقط، ونعتاد الضوء المبهر.
تستحق سوريا أن تنتقل من كونها ساحة للاقتتال إلى حديقة للأنواع والأجناس والأطياف. حيث يتباهى كل بلونه، ويزهو بألوان الآخرين.
بهذا فقط يتآلف السوريون ويعود المهجّرون، وينتفي التحيز. وبهذا فقط يمكن أن يقال إن سوريا باقية رغم كل شيء.
علي قاسم – كاتب سوري مقيم في تونس – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة