في خطاب الرئيس بشار الأسد بمناسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية بولاية رابعة مدتها سبع سنوات، فسر أزمة بلاده بسبب ما سماه غياب القيم، مشيراً إلى سقوط رهانات قوى العدوان لسقوط الدولة، وداعياً من سماهم بالمغرر بهم إلى العودة إلى الوطن. أما الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تضرب البلاد فمردها حسب الرئيس الأسد إلى تجميد أموال السوريين ما بين 40 إلى 60 مليار دولار في المصارف اللبنانية. وبالنسبة للمهام المستقبلية، فهي – كما جاء في خطابه – استعادة سيادة سلطة الدولة عبر استكمال تحرير ما تبقى من الأرض السورية من الإرهابيين ورعاتهم الأتراك والأميركيين، وتلك أولوية قصوى تطلبت تحية من الأسد لكل سوري يقاوم القوات الأجنبية في المناطق المحتلة. أما الحلفاء الذين استحقوا التحية فهم روسيا وإيران، في حين لا يمكن لدمشق أن تنأى عن الهموم العربية وفي المقدمة قضية فلسطين.
الخطاب ملئ بالرسائل للداخل والخارج، ويقدم تصوراً لما مرت به سوريا في العقد المنصرم، وما يجب أن تقوم به مستقبلاً. ولعل أهم ما في الخطاب هو أن سوريا ليست معنية لا من قريب أو بعيد بالتسوية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة سعياً لتطبيق القرار 2254، وبيان جنيف 2012. وكلاهما حددا المطلوب لحل الأزمة السورية من خلال دستور جديد يشارك في صياغته كل السوريين، وتشكيل هيكلية حكم انتقالية تعقبها انتخابات رئاسية وبرلمانية يتشكل على أثرهما حكومة جديدة وفق المبادئ الديمقراطية. وهي الخطة المفترض أنها تُمثل المخرج الأشمل للأزمة السورية، ويفترض أيضاً أنها ستقود إلى سوريا جديدة متصالحة مع نفسها ومع العالم، وستؤدي إلى إسهامات دولية لإعادة إعمار ما دمرته الحرب.
لكنها أيضاً الخطة الأممية التي لا تتعامل مع وجود القوات الأجنبية والمرتزقة بأنواعهم، وكيفية إنهاء وجودهم غير المشروع وفقاً لميثاق الأمم المتحدة. وتلك بدورها ثغرة كبرى تخلط الأوراق، وتمنح نفوذاً لهؤلاء الأجانب، وفرض أمر واقع على مساحات كبرى من الأرض السورية، لا سيما أنهم مستبعدون من أي عملية تسوية سياسية، لكنهم يقررون مصيرها.
الانتخابات الرئاسية التي نظمتها الحكومة السورية وفاز فيها الرئيس بشار، كما كان متوقعاً بنسبة لا تقل عن 95 في المائة، لا علاقة لها بهذا التصور الأممي الذي تتمسك به دول مهمة على رأسها الولايات المتحدة، ولا ترفضها دول أخرى كالصين وروسيا وغيرهم الذين وافقوا على القرار الدولي 2254 لعام 2015. في حين أن واشنطن تضيف أيضاً شرطاً آخر إلى جانب الشروط الأممية، وهو محاسبة كل من اشترك في فعل يعد جريمة ضد الإنسانية وانتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان، وهو شرط موجه أساساً لمحاسبة الرئيس الأسد وبعض من حوله المتهمين باستخدام أسلحة كيماوية قضت على مدنيين كُثر في عدة مناسبات. وشرط المحاسبة أكد عليه أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركي في الشهرين الماضيين، حين قاد جهوداً دولية وإقليمية بشأن التمديد للقرار الأممي الخاص بمد التفويض لتمرير مساعدات إنسانية عبر معابر حدودية مع تركيا لا تخضع لسيطرة الحكومة السورية، وهو ما حدث بشأنه تفاهم بين الرئيسين بوتين وبايدن حين التقيا في جنيف في 16 يونيو (حزيران) الماضي.
السياسة السورية التي تجمع بين فرض أمر واقع يلغي عملياً عملية التسوية الأممية، وتكرس معنى الانتصار الجزئي بمساعدة حلفاء خارجيين، وتحدد الهدف في استكمال تحرير الأرض وطرد القوى الأجنبية، لا تشير صراحة أو حتى تلميحاً إلى التطلع لإنهاء تجميد العضوية في الجامعة العربية، وتترك الأمر عملياً لروسيا باعتبارها الحليف الأقوى الذي سعى بجدية شديدة لإنهاء هذا التجميد، كمقدمة لإضفاء شرعية عربية على سوريا نصف المنتصرة ورئيسها المنتخب، ولفتح الأبواب المغلقة أمام تقديم دعم اقتصادي للاقتصاد السوري المنهك، وفتح ثغرة تمر منها جهود إعادة إعمار سوريا ولو جزئياً.
التحرك الروسي بالتنسيق مع رأس دمشق لغرض استعادة سوريا عضويتها في الجامعة العربية يطرح ثلاث ملاحظات؛ أولاها أن الاستناد إلى فرضية أن تلك العودة ستؤدي إلى تقليص مساحات النفوذ الإيراني من جهة، وتدعم التحرك السوري المدعوم روسياً لإنهاء التدخلات التركية في الشمال السوري من جهة أخرى، يبدو صحيحاً نظرياً ولكنه لا يقدم دليلاً على أن نخبة دمشق الحاكمة تسعى بالفعل إلى تحجيم النفوذ الإيراني، ومن ثم فإن التطبيع العربي معها قد يكون إضافة فعلية تسهم في تحقيق هذا الهدف ولو تدريجياً. وتأتي تحية الرئيس بشار لإيران كحليف قوي أسهم في الانتصار السوري لتضع علامات استفهام حول صحة الفرضية وجدارة العمل على أساسها.
ثانياً أن التحرك الروسي المكثف في أكثر من مناسبة آخرها زيارة وزير الخارجية الروسي لافروف في مارس (آذار) الماضي إلى مصر والإمارات وقطر، بدا وأنه يقفز عملياً على التوازنات القائمة في الجامعة العربية بشأن تلك المعضلة، والتي تجمع بين تأييد مبدأ استعادة سوريا لمقعدها استناداً لأهمية الأمر عربياً وسورياً، وهو ما عبرت عنه الدول العربية الثلاث ودول أخرى كالجزائر والعراق ولبنان والأردن، وفي الآن نفسه يربط بعضها إنهاء التجميد بشروط إجرائية وفقاً لميثاق الجامعة العربية، وأخرى سياسية وعملية أهمها أن تبدأ عملية تسوية سياسية جادة تنهي جذور الأزمة وتُنشئ سوريا جديدة لكل مواطنيها مقبولة عربياً ودولياً. وكلا الشرطين لم يتوفرا بعد. كما تقفز تلك الجهود الروسية على تأثيرات قانون قيصر الأميركي وما يتضمنه من قيود تجعل عملية إنهاء تجميد عضوية سوريا مرتبطة بتفاهمات وسياسات روسيا والولايات المتحدة مع مجمل الأزمة السورية، علاوة على علاقتها المباشرة والعضوية مع أزمات إقليمية أخرى، لا سيما مع إيران وبرنامجها النووي والصاروخي، وإنهاء الوضع الكارثي القائم في لبنان.
ثالثاً أن التحرك الروسي يتجاهل تأثيرات وجود القوات الأجنبية، لا سيما الأميركية والتركية والمنظمات المسلحة ذات الطابع الإرهابي على حقيقة محدودية السيادة السورية على الأرض السورية، ومن ثم تعقد عملية إعادة الإعمار حتى وإن رغب البعض في المساهمة الفعالة في تلك العملية. وفي السياق ذاته يبدو ثمة تناقض شاسع بين التأثير السلبى للوجود الأجنبي على الأرض السورية، وبين التنسيق المهم والمشهود بين روسيا وتركيا بشأن الوجود العسكري التركي في شمال شرقي سوريا، وأيضاً مع تل أبيب بشأن الهجمات الصاروخية والاعتداءات على مواقع عسكرية في العمق السوري من دون رد، في الوقت الذي تبدو فيه موسكو بمثابة ضامن رئيسي لبقاء الرئيس الأسد على قمة السلطة منعاً لفراغ السلطة، حسب الدعاية الروسية المتكررة.
التحرك الروسي على هذا النحو وإيمان الرئيس الأسد بالانتصار ولو كان جزئياً، وثقته بأنه لا حاجة إلى تسوية سياسية أممية أو غيرها، يرجح بقاء الأزمة لعدة سنوات مقبلة، ومعها معاناة السوريين في الداخل وفي الخارج.
د. حسن أبو طالب – مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية – الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة