زيارات وتصريحات وحراك سياسي بذريعة التصعيد العسكري الأخير بين حماس والحكومة الإسرائيلية، ولا بد أن تصريحات حكومات الدول الضليعة تعبر عن مواقف متشابهة نسبياً تجاه هذه الأزمة في المنطقة، ولكنها تتقاطع ايضاً مع مواقفها من القضية السورية والتي باتت اليوم حاضرة وقائمة في كافة ملفات الشرق الأوسط، ويجدر في هذا السياق أن ننوه للموقف التركي بحكم أن هذه الجهة تسعى لإجراء مقايضات سياسية على مستوى الاقليم، وتلك المساعي تتوجه بالدرجة الأولى لمصلحة الحكومة التركية الحالية، على حساب الشعب السوري وعلى حساب القضية السورية بحكم الهيمنة على ما صُنع من تشكيلات سياسية وعسكرية في الشمال السوري خلال العقد المنصرم، وبالتالي لا يبدو الأمر بعيداً عن المساعي التركية بإجراء مقايضات سياسية بما يخص قطاع غزة في السياق ذاته، وهذا ما يتوجب التنبه له، للتصدي لمخاطر تصنيع كوارث إنسانية جديدة في المنطقة ولمنع أي محاولات لحرف مسار الحراك المدني الناهض بشعوبها، عن جهل ربما بالتبعات الكارثية لهذا المآل.
فكما ورد بتصريحات مسؤولين أتراك في الزيارة الاخيرة للبنان أن هذه الجهة ستقدم مقترحات حلول، ومن نافل القول أن هذه المقترحات ستعمل بالدرجة الأولى لمصلحة الحكومة التركية الحالية، وهي بذلك قد تهدف لمقايضة تدفع نحو تهجير المزيد من المدنيين نحو الأقاليم الشمالية السورية حتى من القطاعات الفلسطينية المحاصرة، تحت ذريعة القصف والدمار القائم بها اليوم بسبب الصراع بين الأطراف العسكرية، وهذه المساعي تقع ضمن بعض ما ظهر من أهداف السياسات التركية في المنطقة:
· السعي للهيمنة على مفاصل حراك الشعوب الهادف للتقدم بالمجتمعات وللنهوض التنموي والاقتصادي، ووأده بالتواطؤ مع المنظومات الشمولية الأخرى.
· السعي لمنع حراك الشعوب، كما جرى في سوريا، عبر حرفه نحو الميليشيات المسلحة والصراع العسكري والجهات التابعة التي تُقاد بالمال والارتهان وتحوير القضايا المصيرية الى قضايا صراع مذهبي وطائفي وقومي، بعيداً عن سمتها الأساسية المدنية والتحضرية.
· السعي لتطبيق تغيير ديمغرافي ما، ليخدم أهداف الحكومة التركية الحالية في الشمال السوري بتغذية صراع عربي كردي، وصراع بين الطوائف والمذاهب ومختلف الثقافات والبنى المجتمعية، بما يمنع أي تقدم وتطور ويستهلك
الموارد لمدى بعيد.
وفعلياً تعتبر المناطق الشمالية السورية اليوم هي الأقل حصانة في المنطقة، فهي لا تمتلك صفة دولة بعد لتستطيع منع الدفع بالتهجير لأراضيها كبقية الدول، ولا يوجد من يُدافع عن مصالحها، فهي كما حال القطاعات الفلسطينية المُحاصرة والمُحاربة عبارة عن مساحة تحت حكم ميليشيات وقوى أمر واقع عسكرية لا تحقق أمن الناس والمؤسسات الخدمية ضمنها هي مؤسسات دولية للمساعدات الانسانية بشكل أساسي، فلو امتلكت هذه القطاعات صفة الدولة وحدودها، لاستطاعت الحد من أي انتهاكات تطال مواطنيها ولمنعت استخدامهم وقوداً للحروب والصراع ولاستطاعت الحد من التغول والتمدد على أراضيها، على نقيض الوضع الحالي، فهذه المناطق اليوم في حصار وتضييق في الموارد وقصف على البنى التحتية دون أي مقدرات دفاع ذاتية ودون أي عون، وفي ذلك أيضاً تتشابه مع الأقاليم السورية الشمالية والتي قد تصبح هدفاً لتهجير ملايين جديدة اليها، ومن ثم هدفاً لذات السيناريو الكارثي لهيمنة دول أخرى عليها بذرائع دينية أو أيديولوجية أو سواها وبغياب تشريع شروط الدولة المستقلة ضمنها، وهذا ما يتوجب علينا التصدي له حفاظاً على أرواح ملايين البشر بداية وخطوة نحو بناء الدول الحديثة المستقرة في الشرق الأوسط اسوة بالعالم أجمع وذلك هو مسعى كل انسان عاقل في هذا الزمن ولا يعلو عليه أي هدف.
ومن الخطوات الممكنة لهذا التصدي، التوجه للرأي العام لشعوب المنطقة وعُقلائها بالنقاط التالية:
· أن سيناريوهات التلاعب بالأزمات عبر تغذية استمرارية الصراع في سوريا وخلط أوراقها مع الصراع في القطاعات الفلسطينية ليس في مصلحة بناء الأمن المستدام ولن يعود بالتهدئة على أي جهة بل سيفاقم من غوغائية الأمور وتبعاتها السلبية على صانعيها.
· أن نموذج القطاعات ذات السمة المذهبية أو القومية، والتي لا تعترف بتعددية شعوب المنطقة، ليس نموذجاً صالحاً لبناء السلام في بلاد الشام، وبالأخص في سوريا التي تشكل نقطة التقاء هذه المنطقة، فهي ذات هوية تعددية تستوجب بناء النموذج السياسي الحيادي تجاه القوميات والمذاهب والتقدم بالدولة لمفاهيمها الصحيحة، بعيداً عن حالة النظم الشمولية القديمة الفاشلة التي أُقيمت بها قسراً بعد فترة الحروب العالمية.
· أن النظم القديمة في المنطقة، لا تُعير أهمية لمصالح الشعوب، وذلك أمر جلل ستزداد تبعاته السلبية طرداً ما لم يكن هناك تغيير جذري لمنظور الدول وادارتها، فالدولة التي تقطع الموارد الحيوية عن الناس ليست بدولة ولا تحقق أدنى شروط القيادة والإدارة السوية والسليمة.
ختاماً، فكل ما يصب في تنفيذ خرائط تصنيع الصراع، والتي لم يكن صدفة طرحها قبل اندلاع التصعيد العسكري وتبعاته الكارثية بالتهجير السكاني، هو مسار منحرف بغض النظر عن الفاعلين فيه ومسمياتهم من حكومات وميليشيات، فهو بعيد تماماً عن النهوض المطلوب بالشرق وشعوبه، كركيزة لا غنى عنها لنهوض الإنسانية.
ويبقى لنا دوماً في تثبيت الموقف والكلمة توثيقاً بأن مساعي بناء المسار الصاعد لم ولن تتوقف الى أن تتيقظ العقول للتحديات القادمة وللدور الحتمي لجميع الثقافات في درب المستقبل، فلا تغييب ولا اقصاء لأي منها فبهذا وحده استقامت قوانين الحياة منذ الازل.
د. سميرة المبيض – عضوة اللجنة الدستورية السورية عن فئة “المجتمع المدني”
المقالة تعبر عن رأي الكاتب