الوقت حان لمحاسبة أردوغان على تحديه ميثاق الناتو وهو ما يضعف الحلف ويصب مباشرة في صالح روسيا والصين.
حليف غير موثوق
من الصعب أن نفهم لماذا على مدى السنوات الثماني الماضية، منذ الانقلاب العسكري الفاشل في عام 2016 على وجه الخصوص، ظل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يقسو على شعبه ويتحدى حلفاءه الغربيين مع الإفلات من العقاب تقريبًا. وما يجعل هذا الأمر أكثر سخافة هو أن تركيا دولة عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الأمر الذي يتطلب من جميع الأعضاء التمسك بالمبادئ الديمقراطية مع الالتزام الكامل بعقيدتها العسكرية وسياستها الخارجية التي تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على وحدتها وفاعليتها.
وغالبًا ما يعود المسؤولون الغربيون الذين يُطرح عليهم هذا السؤال إلى التفسير القائل بأن تركيا تحتل موقعًا جيوستراتيجيّا مهمًا بين الشرق والغرب، وهي مركز الطاقة لأوروبا وجسر يلعب دورًا جيوسياسيًا حاسمًا. بالإضافة إلى ذلك تعتبر تركيا مهمة بالنسبة إلى حلف شمال الأطلسي لأنها تستضيف أنظمة الصواريخ بعيدة المدى التابعة للكتلة، وللعمليات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، وخاصة الاستخدام الإستراتيجي لقاعدة إنجرليك الجوية في أضنة المتاخمة للحدود السورية.
وفي حين أن بعض هذه التوضيحات قد تكون لها بعض المزايا، فإنه من الصعب التوفيق بينها وبين انتهاكات أردوغان الفظيعة لحقوق الإنسان وازدراء القيم الغربية التي يجب عليه التمسك بها. ولإحداث تغيير في سلوكه من الضروري أولاً مسح سلسلة تجاوزاته الفظيعة الداخلية والخارجية ووضعها في سياقها واتخاذ التدابير اللازمة التي تتوافق مع نطاق سوء سلوكه.
للأسف، يبدو أن شهوة أردوغان الشرهة لانتهاكات حقوق الإنسان ليست لها حدود وتتجاوز أي مقياس للقسوة والوحشية. خلال حالة الطوارئ المطولة التي فرضها في أعقاب الانقلاب الفاشل في عام 2016، كانت هناك انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، ومازالت مستمرة حتى يومنا هذا؛ والتي تشمل الاعتقالات التعسفية وانتهاكات حرية الجمعيات والتعبير، وانتهاكات الحق في العمل، وانتهاكات حرية الحركة.
بالإضافة إلى ذلك قام بطرد الآلاف من الأشخاص، ومن ضمنهم موظفون عموميون ومعلمون ولاحقا طرد الصحافيين دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة في الكثير من الأحيان. وأصبح التعذيب وسوء المعاملة أمرًا روتينيًا في مراكز الشرطة والسجون، بما في ذلك الضرب المبرح والاعتداء الجنسي والحرمان من النوم. وما زاد الطين بلة أنه اعتقل المدافعين عن حقوق الإنسان والناشطين بهدف ممارسة الضغط على جماعات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية التي تنتقده.
◙ أردوغان استهدف حزب الشعب الديمقراطي الذي يمثل المجتمع الكردي من خلال حظره ومهاجمة حقوق الملايين من الناخبين الأكراد وتقويض الديمقراطية البرلمانية عمدا
إضافة إلى ذلك قام أردوغان باعتقال الآلاف متهماً إياهم، دون أي دليل، بأن لهم صلات بمنظمات إرهابية. وقام بطرد 150 ألفاً من وظائفهم متهما إياهم زوراً بالانتماء إلى حركة غولن بزعامة فتح الله غولن، والتي تعتبرها تركيا وحدها جماعة إرهابية، كما سعى إلى تسلّم مواطنين أتراك من دول أخرى يُزعم أنهم ينتمون إلى الحركة.
لقد اضطهد العشرات من الأكاديميين واتهمهم خطأً بنشر دعاية تدعو إلى العنف، وأقال الآلاف من القضاة والمدعين العامين واستبدلهم بأذناب لتنفيذ أوامره. كما قاد حملة مطاردة في جميع أقسام القوات الجوية التركية، واتهم الكثير من الضباط بأنهم من أنصار حركة غولن وأنهم يقفون وراء الانقلاب. وهو يتجاوز بانتظام الإجراءات القانونية ومتورط في عمليات الاختفاء القسري والنقل غير القانوني. وقد أدى الاستخدام المكثف لقوانين الطوارئ التي أصدرها إلى تآكل سيادة القانون في تركيا، الأمر الذي حدّ بشكل كبير من أنشطة المجتمع المدني وأسهم في تعزيز الإفلات من العقاب.
وطارد أردوغان بشدة من اعتبرهم منتقدين، وخاصة الصحافيين، بينما قام بحظر المواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام وفرض قيودا عامة على الإنترنت، حيث تم حجب أكثر من 100 ألف موقع، بما في ذلك العديد من المواقع المؤيدة للأكراد. وعلى وجه الخصوص استهدف أردوغان حزب الشعب الديمقراطي الذي يمثل في الغالب المجتمع الكردي، وذلك من خلال حظر الحزب ومهاجمة حقوق الملايين من الناخبين الأكراد، وتقويض الديمقراطية البرلمانية عمدا.
وشجع أردوغان الخطابات المناهضة للمثليين ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي من قبل كبار المسؤولين الحكوميين التي أصبحت أكثر شيوعا، وتستهدف الطلاب المثليين، وخاصة في أيام مثل اليوم العالمي للمرأة.
وفي هذا الصدد انسحب الرئيس التركي من اتفاقية إسطنبول، وهي معاهدة تهدف إلى حماية المرأة من العنف وقتل النساء. وأخيرا، ولكن ليس بشكل شامل بالتأكيد، انتهك أردوغان بشكل منهجي حقوق المجتمع الكردي الكبير في تركيا باستخدام القوة المفرطة والتعذيب والعنف ضد النساء الكرديات في حين قام بتدمير مساكنهن وتراثهن الثقافي، وهو الأمر الذي أصبح قاعدة في ظل حكمه الإرهابي.
منذ الانقلاب الفاشل أدت عدة قضايا مثيرة للجدل إلى توتر العلاقة بين تركيا وحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، ويبدو أنه لا يوجد ما يشير إلى إمكانية تخفيف أي من هذه القضايا المتضاربة طالما سُمح لأردوغان بالاستفادة من “الميزة الفريدة” التي تتمتع بها تركيا، وهي أهميتها الجيوستراتيجية للغرب.
كانت ولا تزال انتهاكات أردوغان لحقوق الإنسان، وتراجعه الديمقراطي، وتآكل سيادة القانون في تركيا، من الأسباب المهمة للاحتكاك بين الجانبين، الأمر الذي دفع في الواقع الغالبية العظمى من دول الاتحاد الأوروبي إلى رفض ترشيح البلاد إلى عضوية الناتو. كما بدأ أردوغان سياسات خارجية تتعارض مع المصالح العسكرية والسياسية للحلف. وكان شراء تركيا لنظام الدفاع الصاروخي الروسي أس – 400 مصدرًا رئيسيًا للتوتر، ما أدى إلى فرض عقوبات أميركية. وكانت هذه الخطوة تتعارض مع التزامات تركيا كحليف في الناتو.
إضافة إلى ذلك كانت التدخلات العسكرية التركية في سوريا وموقفها القوي في شرق البحر المتوسط يتعارضان في الكثير من الأحيان مع المصالح الإستراتيجية الأميركية في هذه المناطق. وفي هذا الصدد أثار الدعم الأميركي للقوات الكردية في سوريا، الذي يُنظر إليه على أنه حيوي في الحرب ضد داعش، غضب أردوغان الذي يعتبر ميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية جماعة إرهابية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني.
وكانت علاقة تركيا المتنامية مع روسيا، والتي تجسدت في شراء منظومة أس – 400، وموقفها الحذر تجاه الصين، لاسيما ما تعلق منه بالأويغور والتعاون في سوريا، مصدرًا آخر للاحتكاك المستمر، وأثارا مخاوف في الولايات المتحدة بشأن المواءمة الإستراتيجية لتركيا والتزامها بمبادئ الناتو.
◙ اعتراض أردوغان على عضوية السويد وفنلندا في الناتو ترك الحلف مضطربا بشأن نقاط خلاف أساسية بما في ذلك كيفية التعامل مع تعطش أردوغان الشره إلى فرض إرادته
ونطاق الخلاف بين الناتو وتركيا بشأن قبرص واليونان ينطوي في المقام الأول على النزاعات الإقليمية والتوترات العسكرية. وأدى الوجود العسكري التركي في شمال قبرص منذ عام 1974 ونزاعاتها على الحدود البحرية مع اليونان في شرق البحر المتوسط إلى تصاعد التوترات.
وتم النظر إلى تهديداته بغزو اليونان العضو في حلف شمال الأطلسي وضم أجزاء من قبرص العضو في الاتحاد الأوروبي بسبب النزاعات الإقليمية، خاصة ما تعلق بحقوق التنقيب عن الغاز الطبيعي، على أنها تقوض سلامة وأمن المنطقة. وتتفاقم هذه القضايا بسبب التدريبات العسكرية التي تجريها تركيا، والتي تعتبرها اليونان وقبرص انتهاكا لسيادتهما وتحديا لتماسك الحلف، في حين تعمل على تعقيد العلاقات الدبلوماسية داخل المنطقة.
إن اعتراض الرئيس التركي على عضوية السويد وفنلندا في حلف شمال الأطلسي ترك الحلف مضطربًا بشأن نقاط خلاف أساسية، بما في ذلك كيفية التعامل مع تعطش أردوغان الشره إلى فرض إرادته وكيف يمكن أن يؤدي ذلك إلى أي خلاف مستقبلي. لقد ابتز أردوغان السويد، على وجه الخصوص، لاتخاذ موقف أكثر صرامة ضد الجماعات التي تعتبرها أنقرة منظمات إرهابية، مثل حزب العمال الكردستاني. ولم يكن الأمر كذلك إلا بعد أن عالجت السويد مخاوف أنقرة والتي تضمنت رفع حظر الأسلحة المفروض على تركيا وتعزيز قوانين مكافحة الإرهاب، حتى اعترف أخيراً وسمح للسويد بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
وهناك قضايا خلافية أخرى بين الولايات المتحدة والرئيس التركي، بما في ذلك مطالبة أردوغان المتكررة بتسليم فتح الله غولن الذي يتهمه بتدبير محاولة الانقلاب عام 2016. رفضت الولايات المتحدة الامتثال، بحجة عدم وجود أدلة. ومن القضايا الأخرى المثيرة للجدل اعتراف الولايات المتحدة وفرنسا بالإبادة الجماعية للأرمن عام 1915 التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية، وهو ما ينفيه أردوغان بشدة.
وفي الآونة الأخيرة أعرب الرئيس التركي علناً عن دعمه لحماس واصفاً مقاتليها ليس بالإرهابيين بل بـ”المحررين” الذين يدافعون عن أرضهم. وتسلط تصريحات أردوغان الضوء على انحراف كبير عن وجهات النظر الغربية، التي تصنف حماس منظمة إرهابية. إن رفض أردوغان وصف حماس على هذا النحو يسلط الضوء على علاقته المعقدة مع القوى الإقليمية وجهوده لوضع نفسه كلاعب رئيسي في شؤون الشرق الأوسط. وقد ظهر نفاق أردوغان بالكامل عندما رفض إدانة الهجوم الوحشي الذي شنته حماس والذي أدى إلى ذبح 1200 إسرائيلي، لكنه اتهم إسرائيل بالتصرف وكأنها “مجرم حرب” قام بارتكاب “مذابح” في غزة، ودعا إلى محاكمة القادة الإسرائيليين بتهمة ارتكاب جرائم حرب. بل إن أردوغان ذهب في الماضي إلى حد عرض الجنسية التركية على مسؤولي حماس، ووفر لهم المأوى لسنوات.
ليس هناك شك في أن أردوغان ربما كان ليتصرف بشكل مختلف لو واجهه حلف شمال الأطلسي وكان من الممكن أن يتعرض للتهديد بعواقب وخيمة إذا لم يغير مساره ويلتزم بالمتطلبات الأساسية لحلف شمال الأطلسي. إن فشل الناتو في الوقوف في وجه أردوغان، وتساهله في السماح له بانتهاك ميثاقه دون فرض عقوبات، لم يؤديا إلا إلى تشجيع أردوغان على أن يصبح أكثر قسوة وتحدياً، مدركاً أنه قادر على القيام بذلك مع الإفلات من العقاب. وهذا يعني أن فشل حلف شمال الأطلسي في مطالبة كافة الدول الأعضاء بالالتزام بقيمه يؤدي إلى تآكل أساس المنظمة. وفي حين أنه من الصعب اتخاذ موقف ضد تركيا بسبب مساهماتها وموقعها الإستراتيجي بالغ الأهمية، فإن السماح لها بالاستمرار دون انتقاد ليس سوى منحدر زلق من شأنه أن يدمر الأساس الأخلاقي لحلف شمال الأطلسي. والمتمرد الآخر هو الرئيس المجري أوربان، الذي أصبح دكتاتورا بحكم الأمر الواقع وانتهك بشكل منهجي حقوق الإنسان وحرية الصحافة ولم يتم توبيخه أبدا من قبل حلف شمال الأطلسي، وهو ما يؤدي فقط إلى تفاقم الوعكة التي تعاني منها المنظمة.
أجل، إذا كان حلف شمال الأطلسي يريد الحفاظ على تماسكه وفاعليته باعتباره القوة العسكرية التي تحمي الأمن الأوروبي، وخاصة في هذا المنعطف حيث تستعر الحرب الأوكرانية والحرب بين إسرائيل وحماس، فإنه لا يستطيع السماح لأي من أعضائه بتأجيج النيران. لذلك حان الوقت لكي يتخذ الحلف عدة إجراءات عقابية ضد أردوغان.
◙ للأسف يبدو أن شهوة أردوغان الشرهة لانتهاكات حقوق الإنسان ليست لها حدود وتتجاوز أي مقياس للقسوة والوحشية
على الرغم من أن ميثاق حلف شمال الأطلسي ليس لديه آلية لطرد دولة عضو، فقد حان الوقت لكي يتوقف الناتو عن الاعتماد فقط على القنوات السياسية والدبلوماسية لمعالجة الخلافات مع أردوغان، والتي كانت بعيدة المنال على عدة مستويات، ويلجأ بدلاً من ذلك إلى إجراءات تأديبية واسعة النطاق ومباشرة. وعند اتخاذ مثل هذه الإجراءات ضد رئيس دولة مثل أردوغان بسبب انتهاكات حقوق الإنسان أو الأعمال التي تتحدى اتفاقيات الناتو، يجب النظر إلى الإجراءات في سياق تعقيد القانون الدولي والدبلوماسية والعلاقات الجيوسياسية. وتشمل هذه التدابير:
1 – فرض عقوبات اقتصادية على تركيا، سواء من قبل دول منفردة أو من خلال مجموعة من الدول، مثل تلك الموجودة داخل الاتحاد الأوروبي. ويمكن أن تمتد من عقوبات هادفة تؤثر على أفراد أو قطاعات محددة إلى تدابير اقتصادية أكثر شمولاً. إن فرض المزيد من العقوبات، مثل استبعاد تركيا من برنامج طائرات أف – 35 الأميركية بسبب العملية العسكرية التي قام بها أردوغان في سوريا وشرائه نظام أس – 400 من روسيا، يقدم مثالا جيدا.
2 – الحد من التعاون والمشاركة في أنشطة الناتو من قبل الدول الأعضاء، ما قد يحد من التعاون العسكري أو استبعاد تركيا من بعض الأنشطة المشتركة. وتشمل هذه منع تركيا من المشاركة في مناورات عسكرية محددة لحلف شمال الأطلسي، والتوقف عن تبادل المعلومات الاستخبارية الحساسة، واستبعاد تركيا من عمليات صنع القرار في الحلف.
3 – تجميد أو إنهاء الاتفاقيات الثنائية أو متعددة الأطراف بين تركيا والدول الأخرى، أو بين تركيا والمنظمات الدولية. ويشمل ذلك عدم استقبال الملحقين الأتراك، وإيجاد بديل عن قاعدة إنجرليك الجوية في تركيا بمجرد أن تهدأ الاضطرابات في أوروبا والشرق الأوسط، والتي يستخدمها أردوغان كوسيلة ضغط، وتعليق التعاون في مشاريع معينة، وخاصة التعاون الدفاعي.
4 – يمكن للكثير من الدول والمنظمات الدولية ممارسة ضغوط دبلوماسية على تركيا عبر التعبير علنًا عن عدم موافقتها على إجراءات محددة من خلال الإدانات الرسمية والبيانات العامة والمحادثات الدبلوماسية رفيعة المستوى. وأخيرا، يمكن للآليات القانونية الدولية أن تعالج انتهاكات حقوق الإنسان. ويمكن لهيئات مثل المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان وكشف أردوغان على حقيقته.
وعلى الرغم من أهمية تركيا الجيوستراتيجية يجب على الناتو أن يزن مساهمة تركيا في الحلف في مقابل تحدي أردوغان المستمر لما يمثله الناتو. ويمكن لحلف شمال الأطلسي تقديم بعض التنازلات لاستيعاب دولة عضو معينة مثل تركيا. ومع ذلك، لا يمكنه التنازل عن قيمه الأساسية، وهي الأساس الذي يدعمه كتحالف عسكري قوي وقابل للحياة.
ألون بن مئير – صحفي أميركي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة