نطاق المشاريع الإستراتيجية التي طالما طمحت إيران إلى تنفيذها في سوريا يشمل خططا طموحة مثل بناء مصفاة نفط ثالثة والسيطرة على الأصول الرئيسية مثل الموانئ والمطارات والأراضي الزراعية وحقول النفط.
استثمارات أم ترسيخ نفوذ
عادت التجارة بين سوريا وإيران إلى الحياة بعد سنوات من الخمول. وشهد البلدان تقدما منذ مايو في صفقات إزالة الرسوم الجمركية المشتركة، وإحياء مصانع للسيارات الإيرانية في سوريا، وإنشاء بنك مشترك، وحتى شركة تأمين.
ولم يمض وقت طويل منذ أن كان تحسين العلاقات الاقتصادية بين طهران ودمشق مجرد حديث. ولكنّ للتعاون الآن موعدا نهائيا جديدا هو نفاد الصبر الإيراني.
كانت إيران داعمة للرئيس بشار الأسد منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية في 2011. وتلقت دمشق من طهران المساعدات المالية والميليشيات والأسلحة طوال الـ12 عاما الماضية. وتكشف الوثائق السرية، التي قيل إن المؤسسة الرئاسية الإيرانية نفسها سربتها، عن حجم هذه المساعدة. ويُذكر أنها تُقدر بحوالي 50 مليار دولار من الدعم العسكري وغير العسكري.
لكن هذا الدعم لم يكن مجانيا، بل اعتبرته إيران استثمارا. وكان سعيها إلى استرداد ديونها في إطار التسويات القائمة على المشاريع، فهي تدرك مشاكل سوريا المالية.
إيران ستظل المتبرع الرئيسي لسوريا، بغض النظر عن الكيفية التي سيغيّر بها الهجوم الذي شهدته المنطقة الحسابات الإقليمية
ولم يتحقق سوى عدد قليل من هذه المشاريع رغم جهود طهران. وأبقت المفاوضات الطويلة والمطولة العديد من المشاريع في حالة من الجمود. وتعكّرت الخطط الإيرانية أكثر حين مكّن النظام السوري روسيا من التمتع بنصيب الأسد من الفرص التجارية الجديدة، وأدار ظهره للمقرضين من طهران.
وتحرّكت إيران المحبطة في 2022، لتحقيق طموحاتها الكامنة في تحويل دعمها الكبير إلى فوائد اقتصادية ملموسة. وتمكنت من تأمين امتيازات اقتصادية خلال زيارة الرئيس إبراهيم رئيسي إلى دمشق في مايو – أيار بفضل استغلال النفوذ الإستراتيجي، مثل الحدّ من النفط الذي تصدّره لسوريا.
وأكد رئيسي على التنفيذ السريع للاتفاقيات القديمة والجديدة، بما يشمل تلك المرتبطة بالطاقة والزراعة والنقل والتجارة الحرة. كما انطلق تطوير العديد من المشاريع التي تسيطر عليها شركات بالوكالة مرتبطة بالحرس الثوري الإسلامي الإيراني، بما في ذلك صفقة اتصالات.
وتختلف الجولة الأخيرة عما سبقها بما صدر عنها من الإعلانات التي سهلتها المفاوضات المكثفة. وهي تبرز قدرة طهران الجديدة على تشكيل سياسات التجارة والاستيراد السورية. وتشمل الانتعاش الأخير لصناعة السيارات الإيرانية في سوريا الذي توقف خلال الحرب.
كما تشمل اتفاقية إلغاء التعريفة التجارية الجديدة بين إيران وسوريا الذي كُشف عنه في يوليو – تموز. وتمهد هذه الصفقة الطريق أمام الشركات، بما في ذلك مصانع تجميع السيارات، للمشاركة في التجارة عبر الحدود دون رسوم جمركية.
ويستحق الدفع الذي تبذله إيران لإحياء خطط إنشاء بنك إيراني – سوري مشترك اهتماما خاصا. وكان الاتفاق المبدئي على البنك في 2019، وسُجّل لدى البنك المركزي السوري في 17 أغسطس – آب، ومن المتوقع أن يبدأ عملياته قريبا. ولا يُعرف الكثير عن المؤسسة المالية، وكانت شركة خارجية مجهولة مسجلة في لبنان المساهم الأكبر بنسبة 49 في المئة من أسهمه.
التركيز على نشاط إيران سيتزايد في المنطقة، مما قد يعقّد خططها الاقتصادية. وتخضع طهران للتدقيق بالفعل بسبب دعمها لحركة حماس التي شنت هجوما واسع النطاق على إسرائيل
وتحرز إيران تقدما في إنشاء شركة تأمين، وهي شراكة بين شركة ألبرز الإيرانية للتأمين، وهي من أقدم شركات التأمين في البلاد وأكبرها، وشركة العقيلة للتأمين التكافلي السورية. وكما ذكرنا في ما يتعلق بصفقة البنك، تهدف خطة التأمين إلى تعزيز الاستثمارات الإيرانية الخاصة في سوريا من خلال تخفيف المخاطر المرتبطة بالعمل في البلاد. وستتمكن إيران من تنويع استثماراتها خارج نطاق الحكومة الإيرانية وشبكات الحرس الثوري الإيراني بفضل هذه الإستراتيجية.
كما استغلت إيران نفوذها لتسريع إطلاق شركة الاتصالات التابعة لها، وفا تيليكوم. ولم يُحرز تقدم يذكر منذ توقيع الاتفاقية الأولية في 2017 حتى وقت قريب. وذُكر أن وفا تمكنت من تسليم 500 ألف وحدة تعريف المشترك ونشرت 60 محطة اتصالات متنقلة في سوريا، مما يشير إلى اقتراب موعد إطلاق أعمالها التجارية. ومن المثير للاهتمام أن المساهم الأكبر في وفا مملوك للحرس الثوري الإيراني من خلال شركات وهمية، بما في ذلك كيان “تيومان غولدن تريجر” الماليزي.
ويعدّ نطاق المشاريع الإستراتيجية التي طالما طمحت إيران إلى تنفيذها في سوريا واسعا. ويشمل خططا طموحة مثل بناء مصفاة نفط ثالثة، وربط خدمة السكك الحديدية الإيرانية بميناء اللاذقية على البحر المتوسط، والسيطرة على الأصول الرئيسية مثل الموانئ والمطارات والأراضي الزراعية وحقول النفط، وخاصة المربعين 12 و21.
وبدت هذه المشاريع في السابق أحلاما بعيدة المنال، وتحولت اليوم بسرعة إلى حقيقة.
ومن المؤكد أن التركيز على نشاط إيران سيتزايد في المنطقة، مما قد يعقّد خططها الاقتصادية. وتخضع طهران للتدقيق بالفعل بسبب دعمها لحركة حماس التي شنت هجوما واسع النطاق على إسرائيل، مما أسفر عن مقتل المئات وأشعل شرارة القصف الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة.
لكن إيران ستظل المتبرع الرئيسي لسوريا، بغض النظر عن الكيفية التي سيغيّر بها الهجوم الذي شهدته المنطقة الحسابات الإقليمية. وكان تعثر الاقتصاد السوري وتفاقم هذا التعثر بسبب الصراع المستمر في البلاد ثم بسبب انشغال روسيا بالأزمة الأوكرانية، أضعف موقف نظام الأسد التفاوضي. ويبقى الاستثمار الإيراني شريان الحياة الذي تحتاجه دمشق، وهو وسيلة لترسيخ الهيمنة على الاقتصاد السوري التي سعت إليها طهران باستمرار.
حايد حايد – صحفي سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة