جاءت زيارة نائب وزير الدفاع الروسي يونس بيك يوفكوروف إلى بنغازي لتفسح المجال واسعا أمام الكثير من الترجيحات والاحتمالات، لاسيما في ظل التحولات الكبرى بدول الساحل والصحراء ومنها النيجر التي تواجه تهديدا عمليا بإمكانية التدخل العسكري في أراضيها من قبل مجموعة إيكواس المدعومة من فرنسا، وظهور جملة من المؤشرات حول إمكانية استخدام باريس الأراضي الليبية لضرب بعض الأهداف في الأراضي النيجرية.
وقد حاول الناطق باسم قيادة الجيش الليبي أحمد المسماري الاكتفاء بوضع زيارة الوفد الروسي في إطار التعاون العسكري والأمني ومحاربة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود، وفي التباحث في أوجه التعاون والتنسيق بين الطرفين حسب احتياجات التدريب والتأهيل والصيانة للأسلحة والمعدات الروسية التي تمتلكها القيادة العامة والتي تعتبر العمود الفقري لتسليح الجيش الوطني الليبي. لكن ذلك لا يبدو مقنعا لأغلب المراقبين ممن اعتادوا الاطلاع على تفاصيل ما يدور في البلاد من مصادر خارجية في مواجهة حالة الإنكار المستمر على الصعيد الداخلي.
إلى وقت قريب كان هناك تقارب واضح في مواقف موسكو وباريس حول ليبيا والتي كانت منسجمة مع مواقف محور الاعتدال العربي من الإرهاب، حيث تم النظر إلى الجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر على أنه فاعل أساسي في سياق المواجهة التي كانت مفتوحة بين القوى المدافعة عن الدولة الوطنية والتي كانت تتشكل بالخصوص من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر والأردن والبحرين، وبين منظومة الإسلام السياسي ورعاتها الإقليميين والدوليين وعلى الأخص قطر وتركيا .
وفي مناسبات عدة جرى الحديث عن دعم فرنسا لقوات الجنرال حفتر. ففي يوليو 2016 تم الإعلان عن مقتل ثلاثة ضباط صف من دائرة العمليات التابعة للمديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي “أثناء الخدمة” في مروحية عسكرية، وقال الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا هولاند إن ثلاثة من الجنود الفرنسيين قتلوا بعدما أسقطت طائرة هيلوكوبتر كانوا على متنها أثناء تأديتهم لمهامهم ضمن عملية “بالغة الخطورة”، فيما أكدت وزارة الدفاع الفرنسية وجود عناصر من القوات الخاصة الفرنسية في ليبيا، مشيرة إلى أن “العسكريين الثلاثة من القوات الخاصة كانوا في مهمة خاصة في ليبيا، وأن وجودهم هو لضمان أن فرنسا مستعدة وجاهزة في مجال مكافحة الإرهاب، حيثما كان”.
لا يمكن فصل الموقف الروسي من الشأن الليبي عن جملة المعطيات الإقليمية والدولية، لاسيما أن الغرب الليبي كان مصدرا للمسلحين المنطلقين نحو سوريا للمشاركة في الأعمال القتالية ضد النظام هناك، وللخطط التي تستهدف مصر بعد الإطاحة بحكم الإخوان
في يوليو 2019 اعترفت باريس بأن الصواريخ التي تم العثور عليها في قاعدة كانت تحت سيطرة تلك القوات بمدينة غريان هي فرنسية بالفعل، مع توضيح بأن “هذه الأسلحة كانت مخصصة للحماية الذاتية لمفرزة فرنسية منتشرة لأغراض استخباراتية في منطقة مكافحة الإرهاب”.
وكانت صحيفة “نيويورك تايمز” قد كشفت أن أربعة صواريخ جافلين مضادة للدبابات، اشترتها فرنسا من الولايات المتحدة، قد تم الاستيلاء عليها في يونيو من معسكر للمقاتلين الموالين لحفتر في غريان التي تقع على بعد حوالي 100 كيلومتر في اتجاه جنوب غرب طرابلس، والتي جعل منها الرجل القوي بالمنطقة الشرقية قاعدة خلفية في خطته للسيطرة على العاصمة وعموم المنطقة الغربية قبل أن يضطر لسحب مقاتليه منها.
وخلال السنوات الماضية، كان لفرنسا دور واضح في العمل على تقريب المسافات في صلب اللجنة العسكرية “5+5” التي عقدت آخر اجتماعاتها في باريس في منتصف يوليو الماضي بمشاركة رئيس أركان الجيش الوطني عبدالرازق الناظوري ورئيس أركان المنطقة الغربية محمد الحداد، وقالت الخارجية الفرنسية إن “الاجتماعات بحثت توحيد المؤسسات العسكرية وإرساء الاستقرار في ليبيا مع الحرص على احترام السيادة الليبية احتراما كاملا”، موضحة أن فرنسا تدعم الحوار بين الجهات الأمنية الفاعلة في ليبيا، وتدعم حشد الأمم المتحدة للجهات الفاعلة الليبية لتكوين وحدات مشتركة لإرساء الأمن على الحدود.
وقد كان لافتا إصرار الرئيس إيمانويل ماكرون على استقبال أعضاء لجنة “5+5” وتكريمهم بوسام الشرف في إشارة إلى عمق الدور الفرنسي المحتمل في صياغة المشهد الميداني في ليبيا لاسيما بعد اصطدامه بالتحولات الحاصلة في الموقف من روسيا على إثر اندلاع الحرب في أوكرانيا، وبروز حالة التنافس الحاد على تقاسم النفوذ في دول الساحل والصحراء والتي تعتبر ليبيا من أبرز بواباتها في اتجاه الشمال.
وقبل أيام، زعمت قناة “أفريكا ميديا” نقل القوات الفرنسية وجودها إلى قاعدة الويغ الجوية في جنوب ليبيا على بعد 500 كيلومتر من الحدود بين النيجر وتشاد، في إطار التطورات الجارية في النيجر بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح في 26 يوليو الماضي بالرئيس المنتخب محمد بازوم، وبروز نزعة العداء لفرنسا على غرار ما حصل في مالي وبوركينا فاسو.
وقبل ذلك، أعلن في سبتمبر 2022 عن وصول مجموعة من العسكريين الفرنسيين إلى قاعدة الويغ بهدف معاينتها، وإعادة تأهيلها، وإدخالها للخدمة مجددا، وقيل آنذاك إن قيادة الجيش التي تبسط نفوذها على شرق البلاد وجنوبها تنوي تسليم القاعدة الواقعة قرب الحدود الليبية مع تشاد، وتوصف بأنها قاعدة جوية إستراتيجية متقدمة في عمق الصحراء الليبية لوزارة الدفاع الفرنسية، لتكون قاعدة عسكرية فرنسية في الجنوب الليبي على غرار قاعدة الوطية الواقعة في شمال غرب البلاد والتي تم تسليمها لوزارة الدفاع التركية.
باريس تسعى إلى توسيع نفوذها في جنوب ليبيا مع الطوارق غربا والتبو شرقا بالإضافة إلى القبائل العربية ومنها أولاد سليمان التي كانت تتولى حكم فزان خلال إدارتها عسكريا من قبل فرنسا بعد هزيمة الإيطاليين في الحرب العالمية الثانية
وتعوّل فرنسا على جنوب ليبيا في استرجاع نفوذها المسلوب في دول الساحل والصحراء، ولا ينسى الفرنسيون أن حليفهم الأبرز الرئيس التشادي إدريس ديبي قتل في أبريل 2021 برصاص المتمردين المنتمين إلى جماعة “جبهة التغيير والوفاق في تشاد” التي كانت في طريقها إلى العاصمة نجامينا قادمة من قاعدتهم في جبال تيبستي بالجنوب الليبي الذي تنظر إليه باريس كجزء من تاريخها الاستعماري بالمنطقة وكذلك كبوابة أساسية نحو مستعمراتها السابقة.
وتسعى باريس إلى توسيع نفوذها في جنوب ليبيا مع الطوارق غربا والتبو شرقا بالإضافة إلى القبائل العربية ومنها أولاد سليمان التي كانت تتولى من خلال أسرة آل النصر حكم فزان خلال إدارتها عسكريا من قبل فرنسا بعد هزيمة الإيطاليين في الحرب العالمية الثانية، ومنها تتحدر أصول الرئيس النيجري المعزول محمد بازوم .
وبات إصرار باريس على توسيع دائرة نفوذها في الجنوب الليبي مرتبطا بالتمدد الروسي في دول الساحل والصحراء الذي يبدو أنه أزعج عددا من الفرقاء الليبيين ممن يعتقدون أن موسكو تمثل الداعم الأساسي للجنرال خليفة حفتر ولسيف الإسلام القذافي ممثل النظام السابق في المنافسة السياسية الحادة على تولى السلطة بعد أيّ استحقاقات انتخابية مرتقبة.
وكان رئيس كونغرس التبو عيسى عبدالمجيد اعتبر أن هناك تدخلا عسكريا روسيا في دول الطوق، بإقامة قواعد عسكرية في دول الساحل والصحراء، وزرع جواسيس يعملون على زرع الفتن وزعزعة الأمن والاستقرار لتلك الدول.
ودعا عبدالمجيد الحكومات والمنظمات الدولية إلى اتخاذ التدابير لمنع التمدد العسكري الروسي في القارة السمراء ودول الطوق، موضحا أن تمدد موسكو سيعطي فرصة للمجموعات الإرهابية لاستعادة نشاطها، لافتا انتباه الولايات المتحدة ودول الاتحادين الأوروبي والأفريقي، إلى ضرورة حسم مسألة التوسع الروسي في دول الساحل والصحراء.
وشهدت ليبيا خلال العامين الماضيين حراكا غربيا واسعا من أجل الضغط على الجنرال حفتر لطرد عناصر فاغنر، لكن الأمر ليس بهذه السهولة وإنما يحتاج إلى اتفاق شامل بإجلاء كافة القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية.
وفي يناير الماضي، وصل مدير وكالة الاستخبارات الأميركية ويليام بيرنز إلى بنغازي حيث اجتمع مع قائد الجيش، دون الإعلان عن أسباب هذه الزيارة النادرة وتفاصيلها والتي شملت كذلك العاصمة طرابلس، لكن مراقبين محليين أوضحوا أن ثلاثة عناصر سيطرت على المحادثات التي أجراها بيرنز وهي النفط والانتخابات وقوات فاغنر الروسية التي تصر واشنطن على ضرورة إجلائها من الأراضي الليبية قبل تحديد موعد الانتخابات.
موسكو تبدي تعاطفا واسعا مع سيف الإسلام القذافي وتصر على تشريكه في أيّ عملية سياسية.. وتبين أن عناصر من فاغنر هي التي تولت تأمين تنقله بالتنسيق مع قيادة الجيش في بنغازي وصانعي القرار في موسكو
وتشير التقارير إلى أن 7000 من مسلحي فاغنر وصلوا إلى ليبيا في 2019 وأن عدد من لا يزالون حاليا داخل الأراضي الليبية لا يتجاوز 1200 أغلبهم موجودون في قاعدتي الجفرة وبراك الشاطئ الجويتين في جنوب وسط البلاد وفي قاعدة القرضابية بسرت، شمال وسط، وقاعدة الخادم الجوية الواقعة على بعد حوالي 170 كيلومترا شرق بنغازي، بالإضافة إلى المناطق الغنية بالنفط الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني في برقة وفزان.
ولا تنفي موسكو دور فاغنر في ليبيا، حيث كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد أقر في يونيو 2022 بوجود عناصر من تلك المجموعة في ليبيا، لافتا إلى أن وجودها في ليبيا جاء بدعوة من مجلس النواب الذي كان يتولى المسؤولية السياسية والتشريعية خلال سنوات حرب “فجر ليبيا”، واعتبر أن وجود فاغنر في ليبيا هو “على أساس تجاري”، حيث جرت دعوة الشركة الأمنية الخاصة “من قبل السلطات في طبرق”، وهو أمر لا يخلو من الحقيقة، فقبل عامين من الآن، كانت ليبيا محل صراع على النفوذ بين محورين في المنطقة والعالم، أولهما المحور المرتبط بالإسلام السياسي بقيادة تركيا وقطر والثاني هو المحور المتصدي لجماعة الإخوان وحلفائها والذي يتكون بالأساس من الإمارات ومصر ويجد تعاطفا من روسيا التي كانت تقف إلى جانب الجيش الوطني بقيادة المشير حفتر وترتبط بعلاقات وطيدة مع البرلمان ورئيسه المستشار عقيلة صالح.
ولا يمكن فصل الموقف الروسي من الشأن الليبي عن جملة المعطيات الإقليمية والدولية، لاسيما أن الغرب الليبي كان مصدرا للمسلحين المنطلقين نحو سوريا للمشاركة في الأعمال القتالية ضد النظام هناك، وللخطط التي تستهدف مصر بعد الإطاحة بحكم الإخوان، كما كان منطلقا لترويج الخطاب الإرهابي، وفي مايو 2014 أعرب الكرملين عن دعمه لحكومة عبدالله الثني بالتزامن مع إطلاق عملية الكرامة في بنغازي بقيادة حفتر، وفي أبريل 2015 سافر الثني إلى موسكو حيث اتهم الحكومات الغربية بدعم جماعة الإخوان المسلمين، وفي نهاية يونيو 2016، أي بعد ثلاثة أشهر من تشكيل حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج في طرابلس، جاء دور الجنرال حفتر للذهاب إلى موسكو حيث طلب الدعم السياسي والعسكري. ونهاية 2016 قال نائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف، خلال زيارته الثانية، إنه يجب إشراك خليفة حفتر في أيّ حل سياسي. ثم ظهرت روسيا باعتبارها أهم شريك لها، وفي يناير 2017 تمت دعوة خليفة حفتر لزيارة حاملة الطائرات الروسية الأدميرال كوزنتسوف قبالة سواحل بنغازي كما تم تنظيم تبادل عبر الفيديو بينه وبين وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو.
وفي الأثناء، كان واضحا إن موسكو تبدي تعاطفا واسعا مع سيف الإسلام القذافي وتصر على تشريكه في أيّ عملية سياسية، وفي 14 نوفمبر 2021 ظهر سيف الإسلام للعموم وهو يقدم ملف ترشحه للاستحقاق الرئاسي بالمقر الفرعي لمفوضية الانتخابات في مدينة سبها، وتبين لاحقا أن عناصر من فاغنر هي التي تولت تأمين تنقله بالتنسيق مع قيادة الجيش في بنغازي وصانعي القرار في موسكو.
وأثبتت الأحداث الأخيرة في دول الساحل والصحراء أهمية إقليم فزان الليبي في رسم خطوط المعادلة السياسية والعسكرية والأمنية سواء لدى الفرنسيين أو الروس، بينما لا أحد يمكنه تجاهل دور موسكو في ليبيا سواء من حيث عراقته أو شموليته، وكذلك من حيث حضوره الفاعل على الأرض، حيث لا يتوقف الروس عن محاولات قراءة الواقع سياسيا واقتصاديا وثقافيا ومن خلال العلاقات الوطيدة مع الفعاليات الاجتماعية، فيما يبدو الحضور الفرنسي مقتصرا على مجال الطاقة والحضور العسكري الذي يبقى محتشما في ظل عدم قدرة أيّ طرف ليبي سواء في طرابلس أو بنغازي على الإعلان عن تبنّي مشروع رسمي للتحالف مع باريس، لكن الحديث مؤخرا عن وجود عسكريين فرنسيين في قاعدة الويغ يطرح الكثير من الأسئلة عن المدى الذي يمكن أن تبلغه ليبيا في التورط في حروب فرنسا لمحاولة استعادة نفوذها في الساحل والصحراء.
إن جزءا مهمّا ممّا يدور في ليبيا حاليا تتم هندسته في موسكو، وهو ما يؤكد أن أيّ حل سياسي في البلاد وأيّ مشروع لتشكيل ملامح المرحلة القادمة لا يمكن فصلهما عن العلاقة مع الروس في المنطقة الشرقية والعلاقة مع واشنطن في المنطقة الغربية، لتبقى ليبيا رهينة التوازنات الإستراتيجية التي يفرضها واقع التجاذبات الإقليمية، بما في ذلك ما يجري حاليا في جوارها الجنوبي حيث تتعرض فرنسا إلى محاولة طردها نهائيا من مستعمراتها القديمة.
الحبيب الأسود – كاتب تونسي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة