أردوغان قاد ما يبدو أنه نهضة اقتصادية تركية إلا أنها نهضة كانت قائمة على أساس مبدأ مختل هو: التوسع من خلال الديون. وهذا خيار يقود إلى الانهيار في نهاية المطاف.
الليرة التركية تسجل أدنى مستوياتها حيال الدولار
قاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اقتصاد بلاده إلى الهاوية. لا أحد يقول إن أوضاع تركيا الاقتصادية أسوأ من أوضاع لبنان، ولكن هذا هو الواقع بالفعل.
كان جواب الأسواق الأول لإعادة انتخاب أردوغان هو أن سجلت الليرة التركية أدنى مستوياتها حيال الدولار. تراجع قيمة العملة تواصل حتى بعدما أعلن أردوغان عن تعيين محمد شيمشك وزيرا جديدا للمالية، وحفيظة غاية إركان حاكمة للمصرف المركزي.
هذان الخبيران الاقتصاديان يحظيان بالثقة في مجتمع المال والأعمال. الأول عمل خبيرا اقتصاديا في شركة “ميريل لينش” في لندن لسبع سنوات. والثانية كانت الرئيسة التنفيذية لشركة “غريستون” للتمويل والرئيسة التنفيذية المشاركة لمصرف “فيرست ريبابليك”. إلا أن تعيينهما جاء متأخرا جدا، ولم تقدم أسعار الليرة التركية إشارة إلى أن الأسواق تأمل منهما أن يحققا معجزات.
أردوغان، بتعيين شيمشك وغاية إركان، تنصل من وعد قطعه للناخبين بالإبقاء على معدلات الفائدة منخفضة، كما وعد بخفض التضخم. وهذان شيئان لا يجتمعان. يمكن بيع قطع أراض في الجنة، إلا أنه لا يمكن الجمع بين معدلات فائدة منخفضة وبين تضخم منخفض.
◙ إدارة أردوغان، كررت الخطأ نفسه الذي ارتكبته السلطنة العثمانية قبل أن تنهار. لقد أنفقت على تمويل إمبراطوريتها أكثر مما كانت تنتج. واضطرت إلى المحافظة على التوسع بالديون
الشعوب، ذات الميول الخرافية، يمكنها أن تصدق كل شيء. ولكنها تتعلم، في الغالب بعد فوات الأوان، أنه كان من الأولى بها أن تتوقف عن الإيمان بمن يتعاملون مع الاقتصاد على أنه خرافات.
العملة مؤشر ذكي باستمرار. إنه مؤشر يقول ما لا تقوله الإذاعة والتلفزيون والصحف عن أحوال الاقتصاد. وهو مؤشر صادق باستمرار، لأنه علاقات رياضية مجردة مع الحقائق.
قد يمكن التلاعب به مؤقتا، ولكن لا يمكن التلاعب به باستمرار. يقال “تستطيع أن تكذب على بعض الناس كل الوقت، أو على كل الناس لبعض الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تكذب على كل الناس كل الوقت”. مؤشر العملة هو من هذا النوع بالضبط. تستطيع أن تكذب فيه مؤقتا، ولكنك لن تقوى على ذلك كل الوقت.
شيمشك وغاية إركان يعرفان الحقائق، وقالا صراحة إنهما لن يتبعا سياسة أردوغان “غير التقليدية” حيال معدلات الفائدة. وفي الواقع، فإن شيمشك حالما تسلم منصبه قال إنه “ليس لدى تركيا خيار آخر سوى العودة إلى أساس منطقي، ليكون الاقتصاد التركي قائما على قواعد، ويمكن التنبؤ بتحركاته، وهو الأساس لتحقيق الازدهار المنشود”.
لم يجرؤ على القول “إن سياسات أردوغان لا تقوم على أساس منطقي”، إلا أنه قال ذلك في ثنايا الكلام.
مع ذلك، فلا شيمشك ولا غاية إركان قادران على القيام بمعجزات. لماذا؟ إليك الحقائق بالأرقام.
خبراء الاقتصاد الدوليون يقولون إن كبح جماح التضخم في تركيا، يتطلب رفع معدل الفائدة الحالي البالغ 8.5 في المئة إلى 40 في المئة. وأقصى ما يستطيع شيمشك أن يطمح إليه هو أن يرفع الفائدة إلى 20 في المئة. وهو ما يعني شيئين متلازمين. الأول، إن التضخم لن يتم كبحه بالفعل. والثاني، هو أن الليرة سوف تواصل التراجع.
ما لا يقل أهمية، هو أن رفع أسعار الفائدة يضر بالشركات التي توسعت في أعمالها الداخلية من خلال الاقتراض. أما ارتفاع الفوائد في الخارج، فقصة أشد إيلاما.
◙ العملة مؤشر ذكي باستمرار. إنه مؤشر يقول ما لا تقوله الإذاعة والتلفزيون والصحف عن أحوال الاقتصاد. وهو مؤشر صادق باستمرار
في يوليو العام الماضي كتبت “أحوال” التركية تقول “إن إجمالي الدين الخارجي لتركيا الذي يتعين سداده أو تجديده خلال عام هو 182.3 مليار دولار. مع 83.3 مليار دولار العبء المرجح على القطاع المصرفي (54.2 مليار دولار للمصارف الخاصة و29.1 مليار دولار للمصارف العامة). وتبلغ نسبة السداد لقطاع الشركات 65.7 مليار دولار، وما يقرب من 70 في المئة من هذا المبلغ يتكون من ديون متعلقة بالواردات”.
تستطيع أن تتجاهل هذه الأرقام، إلا أنها سوف تؤثر على سعر رغيف الخبز الذي تشتريه غدا. فرفع أسعار الفائدة يفرض انكماشا على الاقتصاد. والانكماش وارتفاع الفوائد يدفعان الشركات إلى العجز عن السداد.
على امتداد الأشهر الأربعة الماضية، عمد أردوغان إلى دعم الليرة وتمويل العجز من احتياطات المصرف المركزي. بمعنى آخر، فقد اشترى صورة مزيفة للاستقرار، ليشتري الرئاسة من احتياطات المصرف المركزي. هذا أقرب ما يكون إلى جريمة اقتصادية كبرى. ولكن لا بأس. الشعوب التي تميل إلى الخرافات، يمكنها أن تعتبر الجريمة عملا بطوليا. لا توجد مشكلة. ولكن رؤوس الحقائق، لا بد أن تعود لتنكشف كطلع من ثمر الزقوم.
ما ظهر جليا في الحساب الجاري التركي الشهر الماضي، هو أنه يعاني عجزا يبلغ أكثر من 5 مليارات دولار شهريا. وإن هذا العجز يتم تمويله من الاحتياطات النقدية للمصرف. وهذه الاحتياطات انخفضت خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري بمقدار 22.4 مليار دولار.
حتى أواخر العام الماضي كان إجمالي الاحتياطات النقدية لتركيا يبلغ أكثر قليلا من 98 مليار دولار. وهو ربما يكون قد انخفض إلى نحو 76 مليار دولار الآن. ولكن حتى من دون أن تأخذ هذا الانخفاض في الاعتبار، فإن إجمالي الاحتياطات النقدية، مقابل عدد السكان، سوف يعني أن هناك احتياطا يبلغ 1167 دولارا لكل مواطن.
هذا وضع أسوأ بكثير من أوضاع لبنان. إذ يبلغ الاحتياطي النقدي لدى المصرف المركزي اللبناني نحو 9.9 مليار دولار، ما يجعل نسبة الاحتياطي لعدد السكان تبلغ 1449 دولارا. اللبنانيون، بكل ما تعرفه عن أزمتهم الاقتصادية، لا يزالون أغنى من الأتراك بمقدار الثلث تقريبا.
◙ أردوغان، بتعيين شيمشك وغاية إركان، تنصل من وعد قطعه للناخبين بالإبقاء على معدلات الفائدة منخفضة، كما وعد بخفض التضخم. وهذان شيئان لا يجتمعان
ما الذي يُخفي الأزمة في تركيا، إذن، قبل أن يعلو الصراخ؟
الغطرسة. إنها عامل اقتصادي مهم. العامل الآخر، هو أن تركيا تستخدم هذه الغطرسة، لأجل استقطاب تمويلات من الخارج. العام الماضي، قدمت قطر وحدها نحو 15 مليار دولار. إلا أنها لم تكف لوقف الانزلاق إلى الهاوية.
وقد يمكن لعدد من الدول أن تقدم أموالا جديدة، لتدعم استثماراتها في تركيا. كما يمكن اللجوء إلى المزيد من الاقتراض من خلال صندوق النقد الدولي. إلا أن ذلك لا يكفي. لأن أعباء الديون جعلت الفتق أوسع مما يمكن رتقه بتمويلات تقع بنحو بضعة مليارات.
لبنان لكي يعود ليقف على قدميه، بحاجة إلى حزمة إنقاذ لا تقل عن 15 مليار دولار. ويصعب تصور أنه يمكن لتركيا أن تنجو بتمويلات تقل عن 50 مليار دولار.
قصارى الحقيقة هي أن إدارة أردوغان، كررت الخطأ نفسه الذي ارتكبته السلطنة العثمانية قبل أن تنهار. لقد أنفقت على تمويل إمبراطوريتها أكثر مما كانت تنتج. واضطرت إلى المحافظة على التوسع بالديون.
أردوغان قاد ما يبدو أنه نهضة اقتصادية تركية. إلا أنها كانت قائمة على أساس المبدأ المختل نفسه: التوسع من خلال الديون. وهذا خيار يقود إلى الانهيار في نهاية المطاف. ولن يطول الوقت لتجد تركيا نفسها تقول: يا منقذين لله.
علي الصراف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة