في الأزمة السورية، تستغل الإدارة الأميركية الجديدة السياسة التي أرساها الرئيس السابق دونالد ترامب قبل رحيله من خلال فرضه عقوبات قيصر على دمشق وحلفائها. لقد أراد ترامب بهذه العقوبات أن يعلن مرحلة جديدة يتحمّل فيها الروس عبئا كبيرا في وصايتهم على “الرئيس” بشار الأسد، ويجدوا أنفسهم أمام خيارات صعبة إن واصلوا عرقلة حل الأزمة، ولكنه رحل عن البيت الأبيض وجاء خلفه ليقطف ثمار زرعه.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يدرك مأزق المرحلة الجديدة التي يخطط لها ترامب منذ البداية، لذلك أوفد وزير خارجيته المحنك سيرجي لافروف إلى واشنطن ليمنع إقرار عقوبات قيصر نهاية 2019، ولكنه فشل. وعندما انتهت المهلة الزمنية الممتدة بين التوقيع على قرار العقوبات والبدء بتنفيذها في يونيو 2020، وجد بوتين نفسه عاجزا عن فعل أي شيء باستثناء تعطيل عمل اللجنة الدستورية.
حاول الروس العام الماضي تغيير معادلات الميدان، وزعزعة علاقات أميركا مع الكرد شرق الفرات، وتطبيع علاقات دمشق مع العرب، وتغيير أولويات الحل الدولي للأزمة عبر تقديم إعادة اللاجئين وإعادة الإعمار على وضع دستور جديد للبلاد وإجراء انتقال سياسي للسلطة، ولكنهم فشلوا في كل شيء ولم يعد أمامهم سوى الانتظار إلى حين اتضاح توجهات إدارة جو بايدن.
الجفاء الذي تواجهه موسكو اليوم في التعامل مع واشنطن على صعيد الأزمة السورية، كان سيكون ذاته لو بقي ترامب داخل البيت الأبيض. ولكن شاءت صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة نهاية العام الماضي أن تحمل المرحلة الجديدة اسم بايدن، وتبدأ برسالتين سياسية وعسكرية إلى الروس، الفحوى الحقيقي لهما يقول باختصار، إن إصرار بوتين على حل هذه الأزمة بالمقاسات الروسية لن يكون مجديا، ولن يحمل نهاية سعيدة لأي طرف.
في البداية جاء تعيين بريت ماكغورك ليدير الملف السوري في إدارة بايدن، ثم جاء قصف الولايات المتحدة للميليشيات الإيرانية شرق سوريا دون التنسيق مع روسيا أو حتى إعلامها بساعات كما جرت العادة. هي مجرد برقية مقتضبة جدا وصلت موسكو لتعلمها بالقصف قبل دقائق فقط من سقوط الصواريخ الأميركية، ولكن الهدف الرئيسي منها كان دفع بوتين إلى التفكير ببدائل لحلمه في استعادة (احتلال) كامل سوريا، والتمتع بنفوذ لا محدود عبرها في عموم منطقة الشرق الأوسط، وامتداد القارتين الآسيوية والأفريقية.
تعيين ماكغورك كشف عمليا خيارات إدارة بايدن في التعامل مع الأزمة أمام اللاعبين الرئيسيين فيها. ولعل أبرز هذه الخيارات هو ترسيخ تقسيم سوريا بين الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران، ثم ترك توقيت وشكل الإعلان عن هذا التقسيم لأعوام لاحقة قد تقصر أو تطول وفقا لمصالح المعنيين بذلك، والحاجة إلى هذا الإعلان.
ماكغورك لم يجد في تقسيم العراق ضررا، وهو من عمل وأدار ملف هذه الدولة لسنوات طويلة ولصالح إدارات مختلفة. كذلك يؤيد ماكغورك دعم الكرد في المنطقة، ويفضل تثبيت مناطق النفوذ بين الدول المحتلة للجغرافية السورية، وبالتالي إن لم يكن بوسع الروس الدفع باتجاه عملية انتقال سياسي حقيقي تزيح بشار الأسد عن السلطة دون أن تهدم ما تبقى من الدولة السورية، فإن عليهم التأقلم مع حضور محدود لهم يمتد على غرب البلاد، شرط أن لا يطال مصالح إسرائيل في الجنوب، ولا مصالح تركيا في الشمال.
مناطق النفوذ ليست النهاية السعيدة التي يحلم بها بوتين، والقبول بها الآن لن يكون مرحليا كما فعل مع مناطق خفض التصعيد التي رسم حدودها مع إيران وتركيا قبل أعوام، ثم عاد والتهمها بقواته الجوية وميليشياته المحلية. إن قسّمت سوريا إلى مناطق نفوذ بخرائط تشبه سايكس بيكو، فلن يكون بمقدور أحد التمرّد عليها والاحتيال على البقية، وخاصة إن بقيت الولايات المتحدة القطب الأوحد، وصاحب الكلمة العليا حول العالم.
ولا شك أن صراع موسكو وواشنطن فوق الأرض السورية مهما بدا متعقّلا، إلا أنه يعكس جانبا من التمرّد الروسي على الهيمنة الأميركية عالميا. هذا التمرّد يؤيده بدرجات مختلفة كل من الصينيين والإيرانيين وحتى الأتراك شركاء الولايات المتحدة في حلف الناتو، وهذا أيضا يعدّ واحدا من محددات العلاقة الجديدة مع البيت الأبيض في عهد إدارة بايدن التي تعتقد أن الروس سجلوا انتصارات حقيقية عليها في سياق هذا التمرّد، سواء في الشرق الأوسط أو حتى في القارة الأوروبية ومناطق نزاع أخرى حول العالم.
إذن هي ثلاثة خيارات أمام الروس للتعامل مع السياسة الأميركية الجديدة في سوريا، وهي سياسة بدأها ترامب وسيكملها بايدن بأسلوب الديمقراطيين الجدد وعرّابهم الرئيس الأسبق باراك أوباما. الخيار الأول هو القبول بالشروط الأميركية في صياغة الحل السياسي للأزمة دون اجتهادات أو محاولات للعرقلة والتسويف والمماطلة. والثاني القبول بمنطقة نفوذ محدودة يؤسسون فيها لتواجد طويل الأجل وفاعل في الشرق الأوسط. أما الخيار الثالث فهو مواجهة القطبية الأميركية بالسياسة والقوة بغض النظر عن العواقب.
هناك من يعوّل على تغيير ما قد تحمله رياح المفاوضات المرتقبة بين الولايات المتحدة وإيران على المشهد السوري، ولكن هذا التغيير مهما كان كبيرا لن يضيف خيارا رابعا أمام الروس، إلا إن انتهت المفاوضات بخروج القوات الأميركية والأوروبية من الشرق الأوسط برمته، تاركة روسيا تتصارع بمفردها مع القوى الإقليمية. ظاهر الأمر يبدو مغريا للرئيس بوتين، ولكن نظرة متعمّقة فيه قد تجعله يقاتل من أجل إبقاء الأميركيين في المنطقة كي لا يغرق في مستنقع يوقظ هزائم أفغانستان في ذاكرته وذاكرة شعبه الثائر ضده.
بصيغة عملية بحتة تعتبر المصالحة مع واشنطن هي أفضل الحلول بالنسبة إلى الروس في كل الخيارات المطروحة. هم مهتمون جدا بفتح قنوات الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة، ولكن بعد الانتخابات الرئاسية في سوريا. ليس لأنهم يريدون فرض الأسد على الأميركيين وحلفائهم، إنما ليستمروا في دعاية يدهم الطولى في الأزمة السورية. المشكلة هنا أن هناك في الولايات المتحدة وأوروبا من يحاول تعطيل المسعى الروسي، والطامة الكبرى ستكون إن قرر بايدن وإدارته دعم المعطلين بأدوات سياسية أو عسكرية.
بهاء العوام- صحفي سوري- عن صحيفة العرب
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة