سوريا.. البلد المنكوب بحرب مستمرة منذ تسع سنوات وبدمار واسع وتهجير وتشريد الملايين، وبانقسامها إلى ثلاث مناطق نفوذ، ما زالت متنازعا عليها، وتقع تحت وصايات واحتلالات متعددة وباقتصاد منهار وخدمات شحيحة وانهيار كبير في القطاع الصحي، وبمعتقلات وسجون مكتظّة؛ سوريا هذه عليها أن تواجه جائحة تعجز بلدان العالم المتحضّر عن مواجهتها، وقد جمّدت حروبها واقتصادها ومؤتمراتها ومطاراتها وصفقات شركاتها العابرة للقارات، وحصرت جهودها للتقليل من عدد الضحايا والبحث عن علاج.
ورغم أن للظرف الطارئ، وباء كورونا، فوائد على الساحة السورية، من حيث تجميد القتال في إدلب، وإعطاء فرصة أكبر لإنجاح اتفاق موسكو الموقع في 5 مارس الماضي، لكن أطرافا متعددة تسعى إلى تسييس الوباء والاستثمار فيه؛ فهناك سعي محموم تقوده روسيا والصين لرفع العقوبات عن النظام السوري بحجة مواجهة فايروس كورونا المستجد، فيما يسعى النظام لتقديم نفسه صالحا للحكم عبر الادعاء بقدرة حكومته على مواجهة الجائحة.
ما زالت الأطراف المختلفة تحشد في الشمال السوري؛ النظام السوري وإيران يستعدان لاستئناف القتال للسيطرة على جبل الزاوية، وتركيا تستقدم المزيد من التعزيزات إلى نقاط مراقبتها عبر معبر كفرلوسين.
تحشد أنقرة أيضا في ريف حلب لتهديد الوحدات الكردية المتواجدة في تل رفعت. ويبدو أن هناك اتفاقا مع موسكو لتسليم المدينة وريفها لتركيا، مقابل سيطرة روسيا على الطريق الدولي أم5، وفق اتفاق موسكو الأخير بين الطرفين.
فيما تعطي موسكو الفرصة لتأمين الطريق الدولي الثاني أم4 بين حلب واللاذقية، حيث يتم تسيير دوريات تركية فقط، خلافا لنص الاتفاق الذي يحصر أنقرة في مهلة الأسبوع لإبعاد الفصائل الجهادية عن جانبي الطريق، وتسيير دوريات متزامنة على جانبي الطريق.
هذه التهدئة الروسية دعمتها تحذيرات وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى دمشق، في 23 مارس الماضي، ووراء ذلك محاولة روسية- صينية في المحافل الدولية لاستغلال وباء كورونا، والمطالبة برفع العقوبات الاقتصادية، الأميركية والأوروبية، عن النظام السوري، وتحت شعار “عدم تسييس كورونا”، استنادا إلى دعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى هدنة شاملة وفورية، والتفرغ إلى العدوّ المشترك، وباء كورونا، خاصة أن إدلب منطقة مكتظة بأكثر من 3.5 مليون مدني.
ويدعم استمرار الهدنة انشغال الدول الفاعلة في الملف السوري بمواجهة فايروس كورونا المستجد على جبهاتها الداخلية، حيث ينتشر الوباء في إيران منذ أكثر من شهرين، فيما يتصاعد منحنى انتشاره في كل من روسيا وتركيا، ويهدّد القطاع الصحي في الولايات المتحدة، وبأزمة اقتصادية كبيرة، في غياب إحصاءات شفافة حول مدى انتشاره في سوريا، والوضع مشابه في لبنان والعراق.
أغلب المعابر السورية مع دول الجوار، الرسمية وغير الرسمية، كانت مفتوحة حتى وقت قريب أمام الوباء؛ تنتشر الميليشيات الإيرانية في دير الزور، وحركتها غير الشرعية مستمرة بين العراق وسوريا عبر معبر البوكمال؛ فيما تشير التقارير إلى تفشي الوباء في دير الزور، التي تعاني من رداءة مستشفياتها، ولا تملك أجهزة تنفس صناعي. وقد اضطرت الحكومة السورية إلى حجر بلدة كاملة في ريف دير الزور.
ظلت حركة الحجاج مستمرة من إيران والعراق إلى المراقد المقدسة في دمشق وريفها، حتى ما بعد منتصف الشهر الماضي، رغم ظهور الوباء في إيران. وأخفى النظام أعداد المصابين، رغم تسرب أنباء عن إصابات بين الميليشيات الشيعية وجنوده. لكنه اضطر إلى عزل منطقة السيدة زينب في ريف دمشق، حيث تتواجد المراقد الشيعية، وتكتظّ المنطقة بالسكان، دون الاعتراف بدرجة تفشي الوباء في تلك المنطقة؛ وبالمثل عزل منطقة منين في ريف دمشق بعد ثبوت إصابات فيها؛ ولا يبدو أنه يملك إحصائيات حقيقية حول انتشار المرض في مناطقه.
رغم ضعف إمكاناته الطبية، لكن النظام السوري يراهن على قدرته على تطبيق إجراءات العزل الاحترازي بشكل معقول، منذ أكثر من عشرين يوما، ويزيد من شدتها تدريجيا، مستخدما سلطاته؛ إذ لا يمكن لحملات التوعية التي يقوم بها أن تؤدي دورا في ظل عجزه الاقتصادي، وفقدان مصادر الدخل للمدنيين، الذين يعاني منهم 80 في المئة من الفقر، مع ارتفاع أسعار المعقمات والكمامات الطبية. وهو يعطي المجال لقيادات من المجتمعات المحلية، من الموالين له، لضبط مشكلة التجمعات والتدافع للحصول على الخبز، وقد نجحت في العديد من المناطق في إيصالها إلى المنازل بأسعار مناسبة، فيما تؤدي نشاطات محلية، وإن بشكل محدود، تقديم سلل غذائية للمحتاجين، عبر جمع تبرعات أهلية؛ ويغيب أي دور للمنظمات غير الحكومية، على كثرتها، رغم استمرار حصولها على التمويل الخارجي، وعدم خضوعها للعقوبات.
أعلن النظام السوري عن عدد قليل من الإصابات بالفايروس، فيما لم تعلن مناطق الإدارة الذاتية ولا مناطق سيطرة فصائل المعارضة التابعة لتركيا، ولا في إدلب عن إصابات، لضعف إمكانيات الكشف عنها.
طبقت الإدارة الذاتية شرق الفرات إجراءات العزل الاحترازي على شاكلة النظام، وبدرجة أقل في مناطق سيطرة الجيش الوطني التابع لتركيا، في غصن الزيتون ودرع الفرات ونبع السلام؛ لكن الكارثة الأكبر ستكون في الشمال السوري، في مناطق سيطرة حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، التي لا تلتزم بتطبيق إجراءات العزل، ولم توقف الصلاة في المساجد حتى قبل أيام، وسط خلافات شرعية حول هذه الخطوة من قبل أنصار الهيئة وخصومها من المنشقين عنها.
الوضع السوري، المتداعي والمفكك، ينبئ بكارثة إنسانية إذا ما تفشى المرض في مناطق النفوذ الثلاث، خاصة إدلب التي تفتقد إلى المرافق الطبية وإلى الكوادر الطبية والأقنعة الواقية من الفايروس.
ولا يبدو أن المجتمع الدولي بصدد إيجاد حلول تخصّ الوضع السوري، بسبب انشغاله بالتصدي للفايروس في بلدانه؛ ورغم أن آلة الحرب خلال تسع سنوات، حصدت مئات الآلاف من الأرواح السورية، ورغم مصرع عشرات الآلاف في معتقلات النظام، إلا أن المجتمع الدولي لم يقم بما يتوجب عليه لحماية المدنيين، لكن تفشي فايروس كورونا، في سوريا، يقوّض جهود الدول الكبرى لمواجهة الجائحة.
رانيا مصطفى – كاتبة سورية – صحيفة العرب
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة