لبنان صمد طويلا قبل أن يتلقى الضربة القاضية مع تفجير مرفأ بيروت.
دولة فاشلة على كل المستويات
دفع لبنان ثمن حروبه الداخلية وحروب الآخرين على أرضه، وهي حروب مستمرّة منذ العام 1969، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم الذي كان بداية النهاية للوطن الصغير. لن ينقذه توبيخ الرئيس إيمانويل ماكرون للطبقة السياسية اللبنانية وفشلها في تشكيل حكومة. قبل أن يباشر ماكرون الإعداد للكلمة التي ألقاها في المؤتمر الدولي، كان يُفترض به أن يسأل ما الذي يمكن توقعه من بلد رئيس الجمهورية فيه ميشال عون ويحكمه عمليا “حزب الله”، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني؟
أن يصمد لبنان كلّ هذه السنوات قبل أن يبدأ رحلة الانهيار الكامل يُعتبر إنجازا بحدّ ذاته. لن ينقذ لبنان مؤتمر دولي، على النسق الذي دعت إليه فرنسا. لا ينقذ لبنان سوى تغيير جذري في موازين القوى في المنطقة يزيح عنه الهيمنة الإيرانيّة التي أوصلت إلى كارثة مرفأ بيروت وقبلها إلى انهيار النظام المصرفي… وإلى تحويل لبنان أرضا طاردة لشعبها الذي سرقت أمواله وصار يبحث عن خبز ودواء… وكهرباء!
لبنان لا ينقذه سوى تغيير جذري في موازين القوى يزيح عنه الهيمنة الإيرانية التي حوّلت البلد إلى أرض طاردة لشعبها الذي سرقت أمواله وصار يبحث عن خبز ودواء… وكهرباء!
لا يعكس النهاية المأساوية للبنان أكثر من الكلمة التي ألقاها رئيس الجمهورية والتي تحدّث فيها عن سعيه إلى تشكيل حكومة لبنانيّة، فضلا عن كلام إنشائي. يقول ذلك في الوقت الذي يتأكّد يوميا أنّه وضع كلّ العراقيل لمنع تشكيل مثل هذه الحكومة. فعل ذلك طوال تسعة أشهر كان فيها سعد الحريري رئيسا مكلّفا بتشكيل الحكومة. مازال يفعل ذلك مع نجيب ميقاتي… الذي كان في استطاعته لو شكّل حكومة قبل الذكرى السنوية الأولى لتفجير مرفأ بيروت توجيه كلمة فيها جملة مفيدة أو أكثر إلى المؤتمر الدولي. كان يمكن لميقاتي إلقاء كلمة على علاقة بما يمرّ به لبنان بدل كلمة ميشال عون التي تكشف أن الرجل يعيش في عالم آخر لا علاقة له لا بلبنان ولا بالمنطقة ولا بالعالم.
لم يعد يوم الرابع من آب – أغسطس 2020، يوم تفجير مرفأ بيروت وتدمير جزء من عاصمة لبنان. إنّه يوم إعلان نهاية لبنان. كلّ ما يمكن قوله بعد سنة كاملة على الكارثة إنّه لم يبق شيء من لبنان الكبير الذي أعلن عنه في أوّل أيلول – سبتمبر 2020. عاش لبنان قرنا كاملا. هذه معجزة إذا أخذنا في الاعتبار كلّ ما تعرّض له على يد أبنائه أوّلا الذين لم يعرفوا قيمة العيش في بلد آمن ومزدهر فيه حرّيات عامة وجامعات في مستوى عالمي ونظام مصرفي متطور… ويحكمه دستور يفرض تغيير رئيس الجمهورية كلّ ست سنوات.
نعم، صمد لبنان طويلا قبل أن يتلقى الضربة القاضية مع تفجير مرفأ بيروت. ما هو لافت للنظر في الذكرى السنوية الأولى لتلك الكارثة، ذلك التذكير باتفاق القاهرة عبر صواريخ أطلقت من جنوب لبنان في اتجاه مستوطنة كريات شمونة الإسرائيلية. كلّ ما يعنيه ذلك أنّ لبنان ليس سوى “ساحة”. استخدم الفلسطيني هذه الساحة في مرحلة معيّنة امتدت من 1969 إلى 1982. أصبح لبنان بعد ذلك منطقة نفوذ سورية – إيرانية حتى 26 نيسان – أبريل 2005 تاريخ انسحاب الجيش السوري. ما لبث أن سقط تحت النفوذ الإيراني بعدما استطاعت “الجمهورية الإسلامية”، ملء الفراغ الذي خلّفه الجيش السوري وأجهزته الأمنية المختلفة.
انتهى لبنان دولة فاشلة على كل المستويات وفي كل الميادين بعدما عزل نفسه عن محيطه العربي. ليس ما يؤكّد ذلك أكثر من الصواريخ التي أطلقت في اتجاه كريات شمونة على الرغم من وجود الجيش اللبناني والقوات الدولية في المنطقة ووجود القرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والذي أوقف حرب صيف 2006 التي كانت نقطة تحول أساسية في اتجاه وضع “حزب الله” يده على لبنان.
يتحدّث رئيس الجمهورية الرافض لتشكيل حكومة إلى المجتمع الدولي رافضا أخذ العلم بأن إيران تبعث برسائل عبر جنوب لبنان. هناك رئيس للجمهورية وعد سابقا بكشف حقيقة تفجير مرفأ بيروت في غضون خمسة أيام، فيما كان كل همّه في مرحلة ما بعد التفجير قطع الطريق على أيّ تحقيق دولي. كان مثل هذا التحقيق كفيلا، مهما طال، في توضيح العوامل التي أدت إلى تفجير ما بقي من نيترات الأمونيوم المخزّنة منذ العام 2013 في أحد عنابر مرفأ بيروت…
إلى أين سيذهب لبنان بعد الفشل الذي تكرّس في مرحلة ما بعد تفجير مرفأ بيروت وفي ظلّ رفض رئيس الجمهورية تشكيل “حكومة مهمّة” على حد تعبير الرئيس الفرنسي و”ذات صلاحيات كاملة” حسب ما تؤكد الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي؟
الأكيد أن لبنان الذي عرفناه لم يعد موجودا. هناك أسئلة كثيرة ولكن لا أجوبة تتعلّق بمستقبل بلد عليه البحث عن صيغة جديدة ونظام سياسي جديد. لقد نجح ميشال عون الذي أوصله “حزب الله” إلى قصر بعبدا مع صهره جبران باسيل في تدمير النظام والعلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء. ركّز على كيفية القضاء على دستور الطائف بحسناته وسيئاته. يصعب التكهّن بطبيعة النظام الجديد في لبنان، لكن ليس ما يمنع الاعتراف بأنّ كائنا ما سيولد من لبنان القديم. ما طبيعة الكائن الجديد الذي سيظلّ يحمل اسم لبنان؟
تستحيل ولادة كائن أو كيان لدولة قابلة للحياة في المدى المنظور. لا بدّ من انتظار نهاية المخاض الذي يمرّ فيه المشرق العربي كلّه. لكن ما لا مفرّ من التوقف عنده أن لبنان كان صيغة ناجحة إلى حد كبير. لا يبدو مستقبله مرتبطا بالوضع الإقليمي فحسب، بل يبدو هذا المستقبل رهن قيام دولة مركزية أو لامركزية لا وجود فيها لجيشين أيضا. إذا كان من عبرة يمكن استخلاصها من الوصايات التي مرّ فيها لبنان، فإن هذه العبرة تفيد بأن لا دولة بوجود جيشين، أي الجيش اللبناني وميليشيا “حزب الله” التي يوجد رئيس للجمهورية وصل بفضلها إلى قصر بعبدا، رئيس للجمهورية لا يريد معرفة لماذا كان تفجير مرفأ بيروت ومن المسؤول عن ذلك…
خيرالله خيرالله – إعلامي لبناني – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة