إذا كانت قمة جدة لم تحقق إلا القليل، فإن قمة طهران لم تعد إلا بالمزيد من الشر.
القادة العشرة الذين اجتمعوا في جدة طرحوا مشاكلهم. ولم يقدروا على حلها. ومن جهة استعراض القائمة، فباستثناء إسرائيل، فقد ظهر أن كل باقي المشاكل إيرانية الصنع.
ضخ المزيد من النفط لم يكن موضع خلاف في جدة. السوق عامرة. وإذا كانت هناك اختناقات فسببها تقني. حاجة ألمانيا إلى الغاز، على سبيل المثال، يعود أصل الأزمة فيها إلى أن هذا البلد لم ينشئ بنية تحتية لأي بدائل. استسهل واسترخص الاعتماد على غاز الأنابيب الروسي. فأوقع نفسه في ورطة.
أما التضخم وارتفاع أسعار المحروقات، فأهل الاقتصاد لا يجادلون كثيرا حول السبب. أصول التضخم تعود إلى الـ15 تريليون دولار التي تم ضخها في محاولة لتسديد تكاليف مواجهة وباء كورونا. الاقتصادات الكبرى، ظلت تضخ المال، وكأن يوم القيامة سيحل غدا. والعامل التضخمي في ذلك الضخ كان ولا يزال صارخا.
قادة جدة لم يقفوا على الحياد التام في الأزمة الأوكرانية. نددوا بالغزو الروسي، إلا أنهم، بسبب شبكة معقدة من المصالح، لم يشاركوا في فرض العقوبات على روسيا. مفاعلات الضبعة المصرية، على سبيل المثال، ممولة بالكامل تقريبا من روسيا (28 مليار دولار مقابل مساهمة مصرية تبلغ 4 مليارات فقط). والشراكة الروسية في أوبك+ التي كانت سببا لاستقرار سوق النفط لوقت طويل، ما كان بوسع أحد أن يهزها من دون أن يتوقع وضعا أسوأ. والسعودية لم تتردد على أي حال، في القول إنها مستعدة لتعويض أي نقص. قيادة أوبك+ سعودية أصلا. وهو ما رضيت به روسيا منذ حرب الأسعار التي شنتها موسكو قبل نحو سنتين، وأقرت بالهزيمة فيها. سلطة القرار، بهذا المعنى، مضمونة لصالح الاستقرار.
إسرائيل، التي ظهرت كعلة العلل بقيت كما هي، بلا وعود زائفة، وبلا المزيد من المطامع في التطبيع التي لم تتم مكافأتها بحل شامل للأزمة حتى الآن. قادة القمة أقروا في النهاية، بمن فيهم الرئيس جو بايدن، بأن الكرة في ملعب إسرائيل. هي من يتعين أن تعود إلى طاولة الحوار. وهي من يتوجب عليها القبول بحل الدولتين.
بقيت مشكلة واحدة، صنعها بايدن في العلاقات مع السعودية، وقام بحلها، نسبيا على الأقل. كسر حاجز الجليد بينه وبين الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، وأتاح الفرصة لكي تعود الولايات المتحدة لتكون شريكا استراتيجيا. وكل ما بقي في هذا الصدد، هو ترجمة الأقوال إلى أفعال.
القادة العرب في القمة، وإن أدانوا المسالك الإيرانية، إلا أنهم لم يظهروا الرغبة ولا الاستعداد لخوض مواجهة مباشرة مع إيران، ولا الانخراط في مشروع مواجهة.
قمة جدة قدمت القليل، إلا أن التوافقات على الخطوط العريضة للمصالح المشتركة، ظلت قائمة، بل تعززت، بإزاحة بعض ما اعترى صفاء الماء فيها من كدر.
يجب أن تصدّق أن روسيا التي تنظر إلى إيران على أنها منافس في سوق النفط والغاز، والتي تقضم من حصة إيران في الأسواق الآسيوية، تريد أن تساعد إيران في كسب وضع أفضل في المنافسة. إذا لم تُصدّق، حاول
بإيجاز، قالت قمة جدة: لا نريد مشاكل.
قمة طهران، أرادت أن تقدم موسكو كلاعب دولي منافس، يستطيع أن يتحرك وأن يعيد تنظيم بعض المعادلات. لم يحقق الرئيس فلاديمير بوتين في هذا الباب إلا الفشل. إيران لم تسمح له بأن يقرر لها ما تريد أن تفعله في العلاقات مع دول المنطقة. المعادلة القائمة لم تتغير.
ليس من طبائع صناع المشاكل أن يجترحوا الحلول. وإذا حاولوا فلن يعثروا عليها. كانت تلك هي النتيجة الأوضح للقمة. صنعوا مشكلة في سوريا، ثم صنعت روسيا مشكلة في أوكرانيا، ثم صنعت تركيا مشكلة في سوريا والعراق، فضلا عن مشاكلها الأخرى مع اليونان وقبرص، وغيرهما. ولم تسفر أعمال القمة بين الرؤساء الثلاثة عن حلول، أو حتى اقتراح حلول لأي منها.
أردوغان جاء إلى القمة ليحصل على ترخيص باحتلال أجزاء جديدة من شمال سوريا. ما يعني: إذا كانت هناك مشكلة، فقد طلب أردوغان من نظيريه السماح له بزيادتها سوءا. لم يسمح النظيران له بذلك. ولكنهم اتفقوا على تصعيد المواجهة ضد الأكراد. أي زيادة السوء، ولكن على نحو مشترك، بما لا يفضي إلى حصول أي طرف على امتيازات إضافية من شراكة السوء القائمة فيما بينهم على حساب هذا البلد.
بوتين لم يحمل على محمل الجد مساعي تركيا لتسهيل صادرات الحبوب الأوكرانية. توجد مفاوضات، إلا أن شروط موسكو ظلت تزيدها تعقيدا.
الحديث عن قيام إيران بتصدير طائرات مسيّرة إلى روسيا لمساعدتها في الحرب ضد أوكرانيا، قد يوجع القلب من عدة نواح إنسانية تتعلق بالحرب، ولكنه يوجع القلب أكثر من ناحية أن دولة ترى أنها “عظمى” ثم تجد نفسها في حاجة إلى “تقنيات” إيرانية. شيء مخز تماما.
إيران تعرف أن روسيا كانت أكبر المستفيدين من العقوبات ضدها. هذه مفارقة لم تصنعها الأقدار. صنعتها خيارات الشر. فعندما تقطعت السبل بصادرات إيران النفطية، كانت روسيا هي التي استولت على حصة إيران، في الصين خاصة. وحتى عندما استأنفت إيران الصادرات بموجب الاتفاق الاستراتيجي مع الصين، والذي يقوم على مقايضة النفط الإيراني بمشاريع الإعمار الصينية، فقد دفعت المقاطعة الغربية للنفط الروسي بعد غزو أوكرانيا، إلى أن تقوم موسكو ببيع نفطها إلى الصين بـ”أسعار تفضيلية” لتنافس أسعار النفط الإيراني.
هذان “الحليفان” ليسا سوى حليفي ضرر حتى لأحدهما تجاه الآخر.
أحدث المفارقات التي تزامنت مع القمة الثلاثية هي مذكرة التفاهم، التي وقعتها شركة النفط الإيرانية مع غازبروم الروسية بقيمة 40 مليار دولار، لتقوم الأخيرة بموجبها “بتطوير حقلي غاز وستة حقول نفط، فضلا عن المشاركة في مشروعات الغاز الطبيعي المسال ومد خطوط أنابيب لتصدير الغاز”.
يجب أن تصدّق أن روسيا التي تنظر إلى إيران على أنها منافس في سوق النفط والغاز، والتي تقضم من حصة إيران في الأسواق الآسيوية، تريد أن تساعد إيران في كسب وضع أفضل في المنافسة. إذا لم تُصدّق، حاول.
علي الصراف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة