لا يزال باكرا الجزم حول استراتيجية محتملة لإدارة بايدن من أجل استعادة حلفاء أميركا واستعادة دورها ومكانتها في العالم ومن بينهم تركيا بالرغم من انتقادات بايدن لنهج أردوغان خلال حملته الانتخابية وبعدها.
تتطرق القمة الأوروبية التي ستنعقد في العاشر من ديسمبر القادم إلى العلاقة المتدهورة مع أنقرة وتصرفات تركيا في شرق المتوسطـ. وأتى قرار البرلمان الأوروبي غير الملزم، هذا الأسبوع، بدعم طلب قبرص الذي يحث قادة التكتل على “اتخاذ إجراء وفرض عقوبات صارمة ردا على أفعال تركيا غير القانونية” لكي يعزز جهود فرنسا من أجل فرض عقوبات من الاتحاد الأوروبي على تركيا بسبب النزاع على موارد الطاقة في شرق البحر المتوسط ومجمل النهج التركي إزاء أوروبا.
في مناسبات سابقة منذ 2018، حصل انقسام أوروبي استفادت منه أنقرة التي كانت تتمايل ما بين واشنطن وموسكو. واتسم أداء الاتحاد الأوروبي بالعجز والمراوحة والتردد بسبب ثقل الموقف الألماني الذي راهن دوماً على تسوية مع الرئيس رجب طيب أردوغان. فهل ستتغير الصورة بدءاً من القمة الأوروبية في استباق لتمركز إدارة جو بايدن التي يمكن أن تعمل على إعادة أنقرة إلى الحاضنة الأطلسية دون أخذ الهواجس الأوروبية بعين الاعتبار؟
العامل الجديد الذي يدخل على خط العلاقة التركية – الأوروبية المنحدرة، والمتمثل بالتغيير في واشنطن، سيسهم في تأكيد الهوية الأطلسية لأنقرة أو استمرار لعبة التقاطعات المبهمة
جرياً على عادته عشية القمم الأوروبية، حاول الرئيس التركي تنفيس الاحتقان خلال مداخلة له في 22 نوفمبر الحالي قائلاً “إن بلاده المرشحة رسميا لعضوية الاتحاد الأوروبي ترى نفسها جزءا لا ينفصم عن أوروبا لكنها لن ترضخ للحملات والمعايير المزدوجة”. وسرعان ما اعتبر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان تصريحات الرئيس أردوغان التي دعا فيها الاتحاد الأوروبي إلى الحوار والتهدئة “غير كافية”، وشدد على أهمية أن” تكون هناك أفعال وليس أقوال”.
بالفعل بالرغم من تفضيل غالبية الدول الأعضاء، بما في ذلك ألمانيا، لعب ورقة التفاوض مع تركيا، يبدو الرئيس رجب طيب أردوغان مصمماً أكثر فأكثر على المضي قدماً في طموحاته الإمبريالية وفق توصيف وزير الخارجية اليوناني نيكوس دندياس، الذي أكد أن “ما نواجهه مع تركيا هو تحد من دولة عثمانية جديدة”، وتعتقد أن لديها الحق في أن تكون قوة عظمى. وأضاف أن “أنقرة تخلق المشاكل أينما حلت، وأن لديها طموحا تاريخيا تسعى لتحقيقه بالطريقة الخاطئة”. وهذه القراءة من خصم يوناني لدود تأتي بعد نجاح أنقرة في إيصال مرشحها “تلميذ أردوغان” القومي إرسين تتار على رأس الجمهورية التركية لشمال قبرص (جمهورية شمال قبرص التركية، المعترف بها فقط من قبل أنقرة)، ولا يعد ذلك حدثا هامشياً لأنه يعكس الرغبة التركية في الاستيلاء على بعض حقول الغاز المكتشفة مؤخرًا في المياه التي تعتبرها اليونان وقبرص إقليمية. بينما ترفض تركيا ذلك، لأنها تتمسك بنظرتها للوضع الخاص لبحر إيجه وتعتبر أن مياه جمهورية شمال قبرص التركية مفتوحة لها.
من جهتها، تعتبر نيقوسيا أن المياه في المنطقة المتنازع عليها هي مياهها لأن جمهورية شمال قبرص التركية ليس لها وجود دولي… انطلاقاً من ذلك وعلى مدار عامين وأكثر، أرسلت أنقرة سفنًا للتنقيب عن الغاز ترافقها سفن حربية في بحر إيجه، تمامًا مثلما لم تتردد في عبور جزيرة كريت للتوجه إلى ليبيا لتزويد حكومة الوفاق في طرابلس بالسلاح في تحد للحظر الدولي.
وهكذا فإن استئناف السيطرة المباشرة على جمهورية شمال قبرص التركية هي خطوة أخرى في إستراتيجية أردوغان الهجومية. لأن رئيس شمال قبرص الجديد، على عكس سلفه مصطفى أكينجي، يعارض أي إعادة توحيد للجزيرة، بل يطالب بإنشاء دولتين، والتي يمكن أن تكون مقدمة لضم صريح لجمهورية شمال قبرص التركية من قبل أنقرة. لكن من دون الذهاب إلى هذا الحد، فإن فوز إرسين تتار سيمنح أردوغان نفوذاً إضافياً للاعتراف بحقوقه في جزء من حقول الغاز في بحر إيجه.
يضاف هذا “الإنجاز الأردوغاني” إلى الانخراط التركي المتزايد من أذربيجان إلى ليبيا مروراً بالعراق وسوريا أو قبرص. ومن الواضح أن سيد أنقرة استغل ملياً الانسحاب الدبلوماسي والعسكري للولايات المتحدة من البحر الأبيض المتوسط الذي يتحول إلى برميل بارود في ظل تغاض روسي وصيني وانكشاف إستراتيجي أوروبي.
في مواجهة القضم التركي من شرق المتوسط إلى جنوب القوقاز (والذي تمثل أخيراً برفض البرلمان الأذري لأي دور فرنسي للوساطة في مجموعة مينسك بعد خسارة رئيس الوزراء الأرمني الذي خسر مع خياره الغربي والأوروبي)، يبدو الاتحاد عاجزاً عن البرهنة على أن يكون قوة عسكرية موجودة ضمن معادلة القوة في المتوسط.
وتبين اقتصار الدعم الأوروبي العسكري لليونان وقبرص على فرنسا وإيطاليا اللتين أرسلتا سفنا حربية وطائرات بينما ابتعدت غالبية الدول الأعضاء بقيادة ألمانيا عن هذا التوجه وغلبت الخيار الدبلوماسي إذ رفضت الدول الـ27 خلال اجتماع المجلس الأوروبي في 1 و2 أكتوبر، أي عقوبة حينها على تركيا مؤجلة ذلك إلى ديسمبر المقبل. وحاولت إغراء تركيا بوعدها في حال أوقفت عمليات التنقيب غير القانونية، بتحسين الاتحاد الجمركي الذي يربطها بتركيا، وبرصد دعم مالي إضافي لإدارة مخيمات اللاجئين (تم دفع 6 مليارات يورو منذ عام 2016).
حيال مبادرة الاتحاد الأوروبي التي تبرهن على تردده وضعفه، واهتمامه قبل كل شيء بتجنب التصعيد مع أنقرة في تلبية للمصالح النفعية المباشرة لبعض الأعضاء (في مقدمتهم ألمانيا) وتخوفاً من تدفق مهاجرين غير شرعيين ولاجئين، أظهر أردوغان بعض المرونة وناور من خلال إعادة سفنه من جزيرة كاستيلوريزو اليونانية. لكن هذه الخطوة اليتيمة تبعها ما تعتبره أوساط بروكسيل “استفزازات” مع إعادة سفن التنقيب وقرار جمهورية شمال قبرص التركية بإعادة فتح منتجع فاروشا القبرصي اليوناني الساحلي، وهو استفزاز لنيقوسيا وأثينا. وبالطبع اقتصر رد الفعل الأوروبي الفوري على التنديد الكلامي مرة أخرى بـ”تصرفات تركيا الأحادية واستفزازاتها”.
سيكون تطور سلوك تركيا هو المعيار لقرارات قمة 10 ديسمبر، ومما لا شك فيه أن الأمر يتطلب أكثر بكثير من مجرد التهديد بفرض عقوبات اقتصادية محدودة حيث تتخوف العديد من الدول الأوروبية من قيام الرئيس أردوغان بإبعاد الملايين من اللاجئين الموجودين على أرضه نحو أوروبا. ومن أجل تفادي ما تعتبره ابتزازاً تدعو فرنسا إلى فرض عقوبات غير رمزية، وكشفت مصادر مطلعة على اقتراح باريس إلغاء الاتحاد الجمركي بين تركيا والدول الأوروبية، كعقاب عملي يحد من “عدوانية تركيا”. لكنْ هناك تشكيك فرنسي داخلي وأوروبي في نجاح هذا الاقتراح خلال القمة القادمة نظرا لإمكانية انعكاسه على الاستثمارات الفرنسية والأوروبية داخل تركيا. ولذا ستتوقف قوة قرارات القمة الأوروبية على توفر توافق الحد الأدنى وعلى مدى استعداد ألمانيا للتعامل بجدية مع الإجراءات التركية.
اتسم أداء الاتحاد الأوروبي بالعجز والمراوحة والتردد بسبب ثقل الموقف الألماني الذي راهن دوماً على تسوية مع الرئيس رجب طيب أردوغان
بيد أن العامل الجديد الذي يدخل على خط العلاقة التركية – الأوروبية المنحدرة، والمتمثل بالتغيير في واشنطن، سيسهم في تأكيد الهوية الأطلسية لأنقرة أو استمرار لعبة التقاطعات المبهمة. خلال حقبة باراك أوباما أتت مرحلة الاضطرابات العربية (أو الربيع العربي) وبقيت العلاقة الأميركية – التركية محكومة بسقف المصالح المتبادلة وتسهيل غير مباشر للطموح التركي، أما في مرحلة دونالد ترامب فقد ساد العامل الشخصي في العلاقة، وأفاد ذلك التمدد التركي الإقليمي.
حالياً، لا يزال باكراً الجزم حول إستراتيجية محتملة لإدارة بايدن من أجل استعادة حلفاء أميركا واستعادة دورها ومكانتها في العالم. وتركيا هي واحدة من هؤلاء. وبالرغم من انتقادات بايدن لنهج أردوغان خلال حملته الانتخابية وبعدها، إلا أنه سيتوجه في نهاية المطاف إلى التطبيع والمصالحة مع لاعب إقليمي وإستراتيجي هام حسب الدوائر الأميركية. وفي حال نجاح تقنين وترتيب العلاقة الأميركية – التركية وفق أسس جديدة، سيجد الاتحاد الأوروبي نفسه في موقع الشريك الثاني والمهمش.
تمثل قمة العاشر من ديسمبر لحظة الحقيقة بالنسبة إلى السياسة الخارجية الأوروبية لناحية تماسكها وفعاليتها. وإذا تم السقوط في امتحان التعامل مع تركيا أردوغان سينعكس ذلك على صورة أوروبا ونفوذها طويلاً.
د. خطار أبودياب – أستاذ العلوم السياسية – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة