في المواجهة القائمة بين واشنطن وطهران هناك تفوق إيراني ينم عن جهل بالمنطقة ويرمز التعاطي مع العراق إلى طبيعة هذا الجهل الذي يترافق مع إحكام “الحشد الشعبي” قبضته على العراق.
توسع إيراني واستسلام أميركي
إلى يومنا هذا، لا تزال المنطقة العربية كلها تدفع ثمن سقوط العراق في يد إيران. ما كان للمشروع التوسعي الإيراني أن يأخذ بعدا جديدا أكثر اتساعا جغرافيا لولا إقدام إدارة جورج بوش الابن على تسليم العراق إلى إيران في العام 2003. لا يمكن الفصل بين تجرّؤ إيران، عبر إحدى أذرعها، على مهاجمة موقع عسكري أميركي عند الحدود السوريّة – الأردنيّة لولا سقوط العراق وتحوّله إلى مجرّد مستعمرة إيرانيّة. لا يمكن تجاهل أن سقوط العراق في يد إيران فتح طريقا من بغداد إلى بيروت عبر دمشق التي استسلمت في عهد بشّار الأسد نهائيا أمام “الجمهوريّة الإسلاميّة” وخططها في الإقليم.
لولا ذلك الزلزال العراقي الذي تعرّضت له المنطقة كلّها، لما امتلكت “الجمهوريّة الإسلاميّة” حرية التجرؤ على مهاجمة الأميركيين بهذه الطريقة في هذه الظروف بالذات. الأكيد أنّه يمكن العودة إلى هجمات شنتها إيران على أميركا بدءا باحتجاز دبلوماسيي سفارتها في طهران طوال 444 يوما ابتداء من تشرين الثاني – نوفمبر 1979 ثم طرد العسكريين الأميركيين من لبنان بعد تفجير مقر المارينز قرب مطار بيروت في 23 تشرين الأول – أكتوبر 1983. لكن الأكيد أيضا أن إيران ما كنت لتوسّع وجودها في المنطقة من دون امتلاكها للعراق. لم يوفّر العراق موقعا إستراتيجيا لإيران فحسب، بل وفّر لها أيضا، بفضل ما يمتلك من ثروات، إمكانات ماليّة مكنتها من تجاوز العقوبات الأميركيّة والتصرّف بطريقة تشير إلى أنّ مواردها لم تتأثر، كلّيا، بسبب الضغوط التي تمارسها واشنطن وعواصم أوروبيّة.
◙ أميركا تدفع ثمن ممارسة سياسة تقوم على مراعاة إيران إلى أبعد حدود، سواء أكان ذلك في العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن حيث تعاطت مع الحوثيين وكأنّ لا علاقة لهم بإيران من قريب أو بعيد
أسفر الهجوم على الموقع الأميركي المسمّى “برج 22” عن مقتل ثلاثة عسكريين أميركيين وإصابة 34 آخرين بجروح. يعكس مثل هذا الهجوم ذهاب إيران إلى أبعد من ذلك في سعيها إلى التأكيد أنّها القوة المهيمنة على المنطقة وأنّ الجهود التي تبذل من أجل إخراجها من سوريا، خصوصا من الجنوب السوري، لا فائدة منها.
في كلّ يوم يمرّ، يتبيّن أن إيران قادرة على ممارسة دور الوصي على العراق وسوريا ولبنان وجزء من اليمن. ليس معروفا كيف ستردّ إدارة بايدن على الضربة التي تلقتها على الحدود السوريّة – الأردنيّة. المهمّ في الأمر أنّ لا رد نافعا يمكن أن تكون له نتائج على الأرض من دون العودة إلى العراق والهيمنة الإيرانيّة على العراق الذي ينفّذ عبر الحكومة الحالية برئاسة محمّد شياع السوداني أجندة إيرانيّة لا أكثر.
ليس معروفا أيضا هل من سياسة أميركيّة تجاه العراق. الثابت إلى الآن أن الولايات المتحدة نفذت، وما زالت تنفّذ، سياسة إيرانيّة في العراق. كان لا بدّ من التخلّص من صدّام حسين ونظامه، لكنّه كان ضروريا أكثر التفكير في اليوم الذي سيلي التخلّص من صدّام بكلّ مساوئه وغبائه السياسي والقليل من حسناته، من بينها المحافظة على بعض مؤسسات الدولة العراقيّة. كان لا بدّ من التفكير في منع إيران من اجتياح العراق والإتيان بميليشياتها إلى بغداد. في النهاية، من يحكم العراق حاليا هو ميليشيات مذهبيّة عراقية احتضنتها إيران في الماضي وشاركتها في حربها على العراق التي استمرت ثماني سنوات بين 1980 و1988. عادت هذه الميليشيات التي تريد، هذه الأيّام، إخراج القوات الأميركية من العراق إلى بغداد… على دبابة أميركيّة!
كان يمكن التفاؤل بأن الضربة الأخيرة التي وجهتها إيران إلى أميركا ستؤدي إلى تغيير ذي طابع إيجابي في سياسة واشنطن. لكنّ مثل هذه الآمال تبقى مجرّد أوهام في غياب موقف أميركي واضح حيال ما يجري في العراق وسوريا ولبنان واليمن، إضافة إلى ما يتعرّض له الأردن من ضغوطات، خصوصا عبر الجنوب السوري. من يتمعّن في الممارسات الأميركية، يكتشف أن الولايات المتحدة غائبة عن المنطقة. غائبة حتّى عن لعب دور في مجال تحقيق وقف لإطلاق النار في غزّة تمهيدا للبحث في مستقبل القطاع الذي يتعرّض لحرب تدميريّة إسرائيلية لا أفق سياسيا لها.
◙ العراق لم يوفر موقعا إستراتيجيا لإيران فحسب بل وفر لها أيضا بفضل ما يمتلك من ثروات إمكانات مالية مكنتها من تجاوز العقوبات والضغوط التي تمارسها واشنطن وعواصم أوروبية
تدفع أميركا ثمن ممارسة سياسة تقوم على مراعاة إيران إلى أبعد حدود، سواء أكان ذلك في العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن حيث تعاطت مع الحوثيين وكأنّ لا علاقة لهم بإيران من قريب أو بعيد…
في المواجهة القائمة بين واشنطن وطهران، هناك تفوق إيراني واضح يقابله عجز أميركي ينمّ عن جهل، ليس بعده جهل، بالمنطقة. يرمز التعاطي مع العراق إلى طبيعة هذا الجهل الذي يترافق مع إحكام “الحشد الشعبي” قبضته على العراق، تماما مثلما يحكم “الحرس الثوري” قبضته على إيران بإحكام شديد. بلغ الأمر بـ“الحشد الشعبي” فرضه على الحكومة العراقيّة الدخول في مفاوضات تستهدف الانتهاء من الوجود العسكري الأميركي في العراق. حسنا، لا بد من إنهاء هذا الوجود يوما، لكن أين مصلحة العراق في التخلص من الوجود العسكري الأميركي بناء على رغبة “الجمهوريّة الإسلاميّة” ولا أحد غيرها؟
ما نشهده حاليا، خصوصا في ضوء امتناع الحكومة العراقيّة عن شكوى إيران أمام مجلس الأمن بعد العدوان الذي تعرّض له مطار أربيل، ومدنيون عراقيون كانوا في بيوتهم، يشير إلى ضياع أميركي ليس بعده ضياع… بل إلى استسلام أمام “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران.
هل من خيار أميركي آخر غير الاستسلام لإيران التي لعبت أوراقها بشكل جيد في ما بعد حرب غزّة؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها بقوّة في أيامنا هذه، بل هي أسئلة تفرض نفسها. في أساس هذه الأسئلة الخلل الذي أصاب التوازن الإقليمي، خليجيا وشرق أوسطيا، في أعقاب سقوط العراق في يد إيران…
خيرالله خيرالله – إعلامي لبناني – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة