لا يريد بشار الأسد حتى أن يجامل حلفاءه الإيرانيين وحزب الله بموقف يدعم حماس. النظام السوري يرى في الإخوان عدوا حتى وإن كانوا حلفاء لإيران.
تظاهرة فلسطينية يتيمة في مخيم اليرموك الذي ما زال يحمل آثار الحرب الأهلية السورية
توفر خرائط غوغل أداة لقياس المسافة بين مكانين. بنقرتين، يمكن تحديد نقطتين على الخارطة، ويحدّد غوغل المسافة على الخط المرسوم بين النقطتين. قمت بالتجربة، وقست المسافة بين دمشق ومدينة غزة وكانت 280 كم. جربت نقطتين أُخرييْن، بين الحافة الجنوبية لمزارع شبعا التي يسيطر عليها السوريون، وأقصى نقطة ناحية الشمال في القطاع، فوجدتها 180 كم. مسافتان جغرافيتان قريبتان جدا حتى بمعايير العالم القديم. ولو أضفنا مختلف العوامل الجيوسياسية الأخرى من تواجد فلسطيني في سوريا وخطاب سياسي وعداء إسرائيلي وإطلالة إيرانية على الصراع العربي – الإسرائيلي من خلال البوابة السورية – اللبنانية وقصف إسرائيلي مستمر على أهداف في سوريا، لانعدمت المسافة الفاصلة رمزيّا وإن بقيت ماثلة حسيّا. لكن غزة، كما يبدو، تقع في قارة أخرى بالنسبة إلى النظام السوري. الحرب في غزة ليست شأنًا سوريّا.
يصفّي نظام بشار الأسد بموقفه هذا، حسابه مع الإسلاميين بصفة عامة ومع الإخوان بصفة خاصة. يحمّلهم مسؤولية الحرب الأهلية السورية التي دمرت جزءا كبيرا من البلد وقسمته إلى مناطق نفوذ وتواجد لدول مختلفة وهجرت وقتلت الملايين من أبنائه. إخوان سوريا، من وجهة نظر النظام، ورطوا البلاد في صراع مدمر بالطريقة نفسها التي ورطت بها حماس الفلسطينيين في حرب التدمير الإسرائيلية الشاملة التي تدور رحاها في غزة الآن. النظام يتبرّأ من الأسباب التي أوصلت سوريا إلى الحرب الأهلية، ويحرص على أن يكتب تاريخ الصراع الداخلي من يوم اندلاع الانتفاضة ضده في درعا.
◙ لا مكان لسوريا في جبهة الممانعة الحالية. بل صار واضحا أن لا مكان للفلسطينيين في أدبيات السياسة السورية التي تعتبر القضية الفلسطينية قضيتها الأولى
لا يريد الأسد أن يسامح جماعة الإخوان أو حماس. من وجهة نظره، سبق وأن سامحهما بوساطة قطرية قبل أشهر من بداية “الربيع العربي”. كان القطريون يستخدمون الأسد لمشاغلة السعوديين والضغط عليهم. ضرب النظام السوري آنذاك بكل الأعراف الدبلوماسية عرض الحائط، وصار ينعت السعوديين بأشباه الرجال. كافأته الدوحة بأن طلبت من الإخوان قلب صفحة معه. أوعزوا إلى المراقب العام للإخوان في سوريا صدرالدين البيانوني بأن يصدر بيانا يقول فيه إن النظام السوري يتعرض لاستهداف من قوى خارجية (أي السعودية وإسرائيل)، وهذا يتطلب الوقوف إلى جانبه. زاد من الحبكة الدرامية القطرية موقف رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان من الأسد، وتأييد حماس التي كانت تتمتع بوجود ملحوظ في سوريا. لكن كل شيء تغير بعد “الربيع العربي” وتبنّي قطر وتركيا والإخوان موقفا مناهضا للأسد سرعان ما تبنته السعودية لتفتح جبهتها الخاصة لاستنزاف النظام السوري.
أغرق النظام والمعارضة سوريا في الدم. وأغدق القطريون والسعوديون على الفصائل الإسلامية السورية المال، ودعموها سياسيا بطرد دمشق من الجامعة العربية. ولولا التدخل الروسي والإيراني، لكان الوضع في سوريا مختلفا عما هو عليه الآن. قاتل حزب الله إلى جانب النظام. ولعل أيّ قراءة موضوعية لتاريخ تأسيس الحشد الشعبي، ستعيدنا إلى الحرب الأهلية السورية بما يسبق اجتياح داعش لشمال وغرب العراق وإلى الفتوى الكفائية للمرجع الشيعي آية الله علي السيستاني عام 2014. بقية القصة معروفة.
وضع الرئيس الأسد مقولة “عدو عدوي صديقي” على الرف. حماس (أي الإخوان) عدو الأسد قبل أن تكون عدو إسرائيل. حماس، التي تتمتع اليوم بدعم إيران حليف الأسد ومساندة الميليشيات الولائية في لبنان والعراق واليمن، تبقى عدوا للأسد حتى لو حاربت الشيطان وليس إسرائيل. لم يجامل الأسد حتى أقرب حلفائه اللبنانيين، أي حسن نصرالله، بأن يوفر استعراضا يشبه استعراضات رفع العتب التي يمارسها حزب الله في جنوب لبنان. لم يتخذ من أي هجمة إسرائيلية على أهداف إيرانية في سوريا حجة للرد. حرب غزة ليست حرب الأسد، ليس لأنه صار منهكا بعد سنوات طويلة من الحرب الأهلية، بل لأن أيّ علاقة مع حماس أو أي دعم لها يعنيان غفرانا لموقفها من النظام في سنوات حربه من أجل البقاء.
التحالف السوري – الإيراني هو أقوى تحالف إقليمي ويتواصل منذ أكثر من 40 عاما. صمد هذا التحالف في وجه كل الاختبارات التي بدأت منذ الحرب العراقية – الإيرانية، مرورا بالحرب الأهلية اللبنانية واستبدال الدور السوري المطلق في لبنان بدور إيراني مطلق بمسمى حزب الله، وصولا إلى النجدة الإيرانية للنظام السوري خلال الحرب الأهلية. كثير من المحللين يقولون إنه لا يوجد شيء اسمه موقف سوري مستقل اليوم، فالتداخل بين النظامين السوري والإيراني أكبر من أن يتمكن الأسد من اتخاذ مواقف منفصلة عن المواقف الإيرانية. حتى المصالحة السورية – السعودية ما كان لها أن تتم لولا المصالحة السعودية – الإيرانية.
◙ الأسد لا يريد أن يسامح جماعة الإخوان أو حماس. من وجهة نظره، سبق وأن سامحهما بوساطة قطرية قبل أشهر من بداية “الربيع العربي”
لكن حالة حماس وحرب غزة هما الشذوذ على هذه القاعدة. طوال الحرب الأهلية السورية، استهدف الإسرائيليون التواجد الإيراني في سوريا، خصوصا عندما يتأكدون أن خبراء إيران وأسلحتها يعملون ضد إسرائيل وليس لدعم نظام الأسد. ومنذ تمكن نظام الأسد من استعادة زمام المبادرة في البلد، ومن استعادة علاقاته مع أغلب الدول العربية، صار هناك ما يشبه الاتفاق الضمني على أن أقصى ما يقوم به النظام هو استنكار الهجمات الإسرائيلية على الإيرانيين وأسلحتهم أو ميليشياتهم الولائية. هذه الهجمات لا تهدد النظام ويستطيع أن يتغاضى عنها. ما لا يمكن التغاضي عنه هو إعادة الاعتبار لحماس والإخوان، حتى لو كانت من بوابة حرب غزة أو استعراضات حزب الله والحوثي أو الدعم الإيراني لقادة حماس.
لا مكان لسوريا في جبهة الممانعة الحالية. بل صار واضحا أن لا مكان للفلسطينيين في أدبيات السياسة السورية التي تعتبر القضية الفلسطينية قضيتها الأولى. الفلسطينيون، بسلطتهم في الضفة وحكم حماس لغزة، وقفوا ضد النظام. وصل الأمر إلى حد أن بعض اللاجئين الفلسطينيين في سوريا أصبحوا مصدر تهديد للعاصمة في مرحلة من مراحل الحرب الأهلية. هناك بعض الجبهات الفلسطينية الهامشية التي تتخذ من دمشق مقرا لها، تبنت على طول الخط موقفا مؤيدا لنظام الأسد. لكن هذا لا يغير الكثير من موقف النظام السوري مما يحدث. الأسد غائب عن حرب غزة. غزة، على خرائط النظام السوري، في قارة أخرى، بل في المريخ.
د. هيثم الزبيدي – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة