على مدار فترة طويلة، وقفت كل من روسيا وتركيا مع طرفين متصارعين في ليبيا، حيث تدعم روسيا «الجيش الوطني» الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر، بينما تدعم تركيا حكومة «الوفاق الوطني» برئاسة السيد فائز السراج المعترف بها من قبل الأمم المتحدة.
كان ذلك يحدث في وقت يتعاون فيه البلدان في سوريا، سواء من خلال عملية آستانة، ثم بعد ذلك من خلال اتفاقات ثنائية؛ الأولى حول منطقة شمال شرقي سوريا في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، ثم اتفاقية إدلب في مارس (آذار) الماضي.
كي نفسر هذا التناقض، من المفيد استرجاع تاريخ العلاقة الروسية – التركية، إذ إن العلاقات بينهما تتسم بالتعقيد، من حيث إنها مرت بتقلبات على مدار قرون طويلة، فشهدت فترات من الود والوئام، لكن فترات أطول من العداء والتنافس. فقد خاض البلدان حروباً عديدة خلال الفترة بين القرن 16 وحتى مطلع القرن 20. ثم طرأ تحسن على العلاقات في عهد روسيا السوفياتية، لكن سرعان ما تردت العلاقات من جديد أثناء الحرب الباردة حين انضمت تركيا إلى حلف «الناتو» في مواجهة الاتحاد السوفياتي. هذا بالإضافة إلى وجود خلاف آيديولوجي، الأول بسبب الشيوعية ثم الآن بسبب الإسلام السياسي. باختصار، ثمة قلق وريبة عميقان بين البلدين، لكنهما دائماً ما يجدان صيغة للتعايش تحافظ على مصالحهما.
في التاريخ المعاصر، بدأت العلاقات تتحسن مرة أخرى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. فبينما ظلت تركيا عضواً في حلف «الناتو»، بدأت تقترب أكثر فأكثر من روسيا بدافع المصالح الاقتصادية، التي ترتكز على الطاقة والتجارة والسياحة. ورغم أنهما وقفتا على جانبين متعارضين من الصراع الدائر في سوريا، فإن ذلك لم يؤثر على رغبة الدولتين في تدعيم علاقاتهما. ولا شك أن الموقف الذي اتخذته موسكو من الانقلاب الفاشل ضد رجب طيب إردوغان كان له تأثير مهم على دعم توجه الرئيس التركي. فإذا كانت أنقرة ترى مصلحة في تطوير علاقاتها مع موسكو، فإن الأخيرة تنظر إلى أن توثيق العلاقة مع تركيا يساعد في تحقيق هدف أساسي لروسيا، وهو تعقيد الأمور داخل حلف «الناتو».
وكان يمكن لحادث إسقاط تركيا لطائرة روسية فوق سوريا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 أن يؤدي إلى عرقلة التطور الإيجابي للعلاقات، غير أن ذلك لم يحدث، بل على العكس، استغلت موسكو الحادث في اجتذاب أنقرة أكثر نحوها. فبعد وقوع هذا الحادث بفترة قصيرة، تمكنت روسيا من دفع تركيا إلى التعاون للموافقة على ترتيبات لوقف إطلاق النار في سوريا في إطار عملية آستانة. وبذلك أصبح هناك مستوى غير مسبوق من التعاون العسكري بين روسيا وعضو في حلف «الناتو».
أما في ليبيا، ورغم وقوف البلدين على جانبين متعارضين مرة أخرى، يبدو أنهما قررا أن يستفيدا من تجربتهما في سوريا، بما في ذلك عملية آستانة من حيث إنه رغم تعارض مصالحهما، فإن ذلك لا يمنعهما من إدارة خلافاتهما بشكل مرضٍ للطرفين.
فيما يخص تركيا، يتعلق الأمر بدعم حليفها المدعوم من الجماعات الإسلامية عبر البحر المتوسط، ومحاولة كسر العزلة الإقليمية النسبية التي تعانيها، مع التطلع إلى أن يكون لها دور في أي ترتيبات مستقبلية في مجال الطاقة في شرق المتوسط. وعلى الجانب الآخر، تتعامل روسيا مع الأمور من منظور تحقيق هدف استراتيجي الذي يتمثل في أن تكون لاعباً كبيراً، إن لم تكن اللاعب الأكبر في مجال الطاقة في شرق المتوسط. ولذلك، فإن إيجاد موطئ قدم في ليبيا يعدّ خطوة مهمة نحو تحقيق ذلك. اللافت أنه رغم احتدام القتال في ليبيا قامت شركة «تافنت» الروسية بتوقيع عقد في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، للتنقيب عن النفط في حوض غدامس غرب ليبيا.
وحتى يمكن لروسيا إيجاد موطئ قدم في ليبيا، كان أمامها بديلان يمكن أن تسلكهما؛ أولهما كان دعم الجيش الوطني الليبي في السيطرة على طرابلس. وهو ما يبدو أن قامت به موسكو بالفعل، ولكن ليس بشكل مباشر وواضح. ولو كان الجيش الوطني الليبي تمكن من السيطرة على طرابلس، لكان لدى موسكو نظام حاكم صديق في ليبيا. إلا أن هذه السبيل لم تؤدِّ بعد إلى النتيجة المرجوة بسبب عدد من العوامل، ربما الأهم منها كان التدخل العسكري التركي المباشر لدعم حكومة الوفاق الوطني.
يبدو الآن أن حفتر سحب قواته من قاعدة الوطية الجوية باتجاه ترهونة بعدما انسحب مقاتلو شركة «فاغنر» من الخطوط الأمامية للقتال. والمثير للانتباه أن تركيا لم تتعقب القوات المنسحبة بما يوحي بوجود تفاهم محتمل بين موسكو وأنقرة.
وهنا السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما العناصر التي يمكن أن يتألف منها مثل هذا التفاهم؟ في المرحلة الحالية، يمكن لتركيا الاستمتاع بنجاحها في حماية حكومة الوفاق الوطني، وأنه أصبح لديها موطئ قدم في شمال أفريقيا، الأمر الذي يعزز مكانتها الإقليمية والدولية، ويمكنها كذلك أن تحلم بالحصول على نصيب من ثروات ليبيا النفطية. وهي كلها مسائل يمكن لموسكو التعايش معها مرحلياً. ولكن في الوقت نفسه من المنتظر أن تبذل روسيا أقصى ما باستطاعتها لعدم السماح لحكومة إسلامية بالهيمنة على كامل ليبيا. وأن يظل الهلال النفطي تحت سيطرة من يحكم بنغازي، أي تحت الحماية الروسية. وربما ما تردد حول وصول طائرات روسية حربية متقدمة إلى ليبيا مؤشر على أن موسكو تنوي حماية مصالحها بشكل أكثر وضوحاً. وأعتقد أن الدول الداعمة للجيش الوطني الليبي يمكن أن تتعايش مع مثل هذا الترتيب، غير أنه بالتأكيد لن يروق لأي من الفرنسيين أو البريطانيين أو الإيطاليين أو الأميركيين.
وبمجرد تثبيت الأمر الواقع لمثل هذا الترتيب، يمكن حينها إعادة إحياء العملية السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة، لكن هذة المرة مع اضطلاع روسيا بدور بارز. وما دام أن القتال متوقف ويستأنف تصدير النفط، سيكون بإمكان العالم التعايش مع هذا الوضع. أما الأمر الذي لم يتضح بعد فهو كيف سيتم إيجاد سبيل لضمان التشارك في عائدات النفط بين حكومة الوفاق الوطني والسلطات في الشرق. وكانت مثل هذه الترتيبات ممكنة في الماضي، فما الذي يمنع التوصل إلى ترتيب مماثل خصوصاً في بيئة يمكن أن تكون أكثر استقراراً. وبالنظر إلى وضع السوق النفطية في المرحلة الحالية، فإن العالم يستطيع الاستغناء عن النفط الليبي لشهور مقبلة، بما يوفر فرصة للتوصل إلى ترتيب جديد.
ما تقدم يبدو أنه في كثير من جوانبه شبيه باتفاقات آستانة والاتفاقين التركي – الروسي بخصوص شمال غربي وشمال شرقي سوريا، حيث تتعاون موسكو وأنقرة في فتح وحماية الطريقين السريعين الاستراتيجيين M4 وM5، في الوقت نفسه تعمل كل منهما على تقليص إمكانية إقدام حلفائها على القيام بأي نشاط عسكري من شأنه تقويض الترتيبات الروسية – التركية المشتركة. ولا شك أن باستطاعة أنقرة تعقيد الأمور مثلما تفعل في إدلب، ولكن ستبقى اليد العليا لموسكو. وعلى المدى البعيد، يمكن التوصل إلى تسوية شاملة في كل من سوريا وليبيا عبر عملية برعاية الأمم المتحدة مدعومة بتحركات روسية نشطة. فمن المؤكد أن امتلاك موسكو مفاتيح التسوية في كل من سوريا وليبيا، سيعزز من قدراتها التفاوضية حول أوكرانيا أمام الغرب.
رمزي عز الدين رمزي
عن صحيفة الشرق الأوسط