أوغاريت بوست (مركز الأخبار) – أعلن فجر اليوم الأحد وفاة المفكر السوري البارز الشيخ جودت سعيد، في منفاه بإسطنبول في تركيا، عن عمر ناهز 91 عاماً، بعد أكثر من 6 عقود من العمل على نشر نظرية “اللاعنف” في العالم الإسلامي، وكان أول ما كتبه “سعيد” في مطلع الستينيات “مذهب ابن آدم الأول” وهو يناقش مبدأ عدم العنف وعلاقته الجذرية بالإسلام، ولم يكتب “سعيد” كتابه إلا بعد أن اعتقل على خلفية نشاطه الفكري، وبعد تجربة الاعتقال شعر بأن من الضروري توثيق بعض الأفكار المتعلقة بعدم العنف.
من الشيخ جودت سعيد
ولد الشيخ جودت سعيد في قرية “بئر عجم” التابعة لقرى الجولان في محافظة القنيطرة جنوبي سوريا عام 1931، وهو من أصول شركسية، ويتحدث اللغة الشركسية إلى جانب العربية.. درس “سعيد” الابتدائية في القنيطرة، ثم أرسله والده إلى مصر لاستكمال دراسته في “الأزهر الشريف” بالعاصمة القاهرة عام 1946، وهناك أتم المرحلة الثانوية، ثم التحق بكلية اللغة العربية ليحصل على إجازة في الأدب العربي منها.
وبرزت أولى معالم تأثر جودت سعيد باللاعنف أثناء تأديته لخدمته العسكرية خلال فترة الوحدة بين سوريا ومصر “1958 – 1961″، وخلال وجوده في صفوف الجيش حدثت واقعة الانفصال، وفي الوقت الذي امتثل فيه الجميع لأوامر القادة في قطعته العسكرية، أعلن رفضه ومعارضته المشاركة في أي تحرك عسكري، مما دفع القادة المسؤولين عنه إلى حجزه في الإقامة الجبرية، ولم يغادرها إلا بعد انقضاء الأمر.
عُين سعيد بعد انتهاء خدمته العسكرية أستاذاً في ثانويات دمشق مدرساً للغة العربية، وما لبث أن اعتقل لنشاطه الفكري منذ تسلّم حزب البعث للسلطة بعد انقلاب عام 1963، وتكررت الاعتقالات أكثر من مرة، ورغم صدور قرارات بنقله إلى مختلف مناطق سوريا فإنه لم يترك مجال التدريس إلا بعد أن تم اتخاذ قرار بصرفه من عمله في نهاية الستينيات.
داعية اللاعنف
وفي كلمات سابقة له أكد الراحل أنه لا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع تغيير قناعات وأفكار أحد باستخدام الضغط والقوة، وأن القرآن يوصينا بعدم استخدام الإكراه في الإقناع، مشيرا إلى أن الضغط يولد ردود فعل قوية.
وأفاد بأنه يجب حل المشاكل والصعاب بالطرق الحضارية، وليس باستخدام القوة، المسلمون ليسوا الوحيدين الذين تركوا سوريا، بل اضطر العديد من شعوب الطوائف والمذاهب الأخرى إلى ترك قراهم ومغادرة البلاد، ويعانون من أزمة كبيرة بسبب الضغط الذي وقع عليهم لتغيير قناعاتهم وأفكارهم.
وقال سعيد أيضا المجتمعات المظلومة والمقهورة تعرف معنى كلمة العدالة أكثر من غيرها، وإن عصر انتهاك الأنظمة لحقوق الشعوب انتهى، مشيرا إلى أن الدول الأوروبية استطاعت أن تحل مشاكلها بدون استخدام السلاح أو القوة.
ودعا جودت سعيد في أيلول / سبتمبر عام 2011 المتظاهرين السوريين إلى التمسك بسلمية التحرك، وأكد عدالة مطالبهم وأوصاهم بقوله “لا تسبوا ولا تضربوا ولا تهربوا”.
وأوضح سعيد أن الشباب هم الذين طالبوا بالديمقراطية والحرية وعدم الإكراه في الدين وليس أساتذتهم، وقال إن العالم العربي لا يوجد فيه علماء دينيون ولا علمانيون، مضيفا أن أستاذ الجامعة وإمام الجامع لا يؤديان الدور المطلوب منهما.
ويعتقد أنه لو قام الأساتذة بدورهم في تحرير الإنسان لما وجد الاستبداد، ولما كان الحاكم يفرض نفسه “أنا ربكم الأعلى”، والمفروض أن يحتكم للانتخابات وأن يرجع إلى بيته إذا فشل، موضحا أن قصة فرعون أطول قصة في القرآن الكريم، لأنها وثيقة الصلة بواقع السلطة والحكم، وكل الآيات التي وصفت فرعون تنطبق على الدكتاتوريين في العالم العربي.
فكراً إسلامياً مختلفاً
ويُعتقد أن جودت سعيد كان يطرح فكراً إسلامياً مختلفاً عن السائد خصوصاً بما يتعلق بـ “العنف” من خلال محاضراته في جامع “المرابط” في دمشق، ومن خلال أول كتبه المنشورة حيث رد على اتجاه الإخوان المسلمين في ممارسة العنف السياسي والتي أخذت بالتصاعد منذ ستينيات القرن الماضي حتى بداية الثمانينيات، حيث لا يجوز الوصول إلى السلطة والحكم بالقوة وبالسيف، فكل ما أخذ بالسيف بالسيف يهلك، والتغيير بالقوة لا يغير المجتمع، وعندما يتشكل المجتمع الراشد يصبح من واجبه نصرة المظلومين والدفاع عن سلامته.
وتمحورت معظم كتابات ومحاضرات الشيخ جودت سعيد بكافة أرجاء العالم والتي استمرت لقرابة 60 عاماً حول الفكرة، التي تناهض “العنف” وتدعو لرفضه، ومن أبرز كتبه بخصوص ذلك “حتى يغيروا ما بأنفسهم”، “العمل.. قدرة وإرادة”، “اقرأ وربك الأكرم”، “كن كابن آدم”، “مفهوم التغيير”، وغيرها.
وأكّد سعيد عبر كتبه أن “العلاقة بين العنف والفكر علاقة عكسية طردية، فكلما زاد الفكر وتنور، كشف الإنسان عدم جدوى العنف”، وقال: “اخترع ديناً وأقنع الناس به وحلال عليك، أما أن تُكره الناس على دين أو فكر أو مذهب، فهذا ضد الله وضد الإنسان وضد الحق، والذي لا يقبل ذلك فهو لا يثق بالله الذي قال “لا إكراه في الدين”، ولا يثق بدين الله أنه حق، ولا يثق كذلك بالإنسان الذي وثق الله به وحمّله الأمانة”.
ولا يخفي الشيخ سعيد إعجابه بالتجربة الديمقراطية في أوروبا وبفكرة الاتحاد الأوروبي، التي لم يستطع المسلمون تحقيق مثيل لها، على الرغم من أن تلك الفكرة تبلورت بعد تاريخ طويل ودامٍ من الحروب والصراعات الأوروبية، القومية منها والدينية، حيث زار جودت سعيد بدءا من عام 1987 معظم الدول العربية والأوروبية وروسيا وإيران وتركيا إلى جانب كندا وأميركا، وألقى خلال جولاته كثيرا من المحاضرات وعقد الندوات في العديد من الجامعات والمراكز البحثية والثقافية.
إعداد: يعقوب سليمان