كانت السياسة الأمريكية في سوريا، مع تولي جو بايدن السلطة، منفصلة عن الواقع. قررت الإدارة إعادة تشكيل الأهداف الأمريكية، وحذفت المفهوم القانوني غير الثابت المتعلق بتأمين المنشآت النفطية السورية، والرغبة بإخراج كل القوات المرتبطة بإيران.
قرر فريق بايدن التركيز على المهمة الأساسية، وهي هزيمة داعش، وعبر فريق الرئيس بشكل خاص أولاً عن هذا التحول من خلال وفد عالي المستوى إلى سوريا في أيار 2021، وبتصريحات علنية للصحافة، في تموز 2021، عن استمرار الدعم العسكري المحدود، والحفاظ على 900 جندي تقريباً في سوريا، واستئناف تقديم المساعدات لدعم الاستقرار لإعادة الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء في المناطق التي تسيطر عليها القوات التي تدعمها الولايات المتحدة. والخطة هي مواصلة عمل هذا لحين تحسن الظروف والتفاوض على تسوية سياسية تنهي الحرب في سوريا.
وجاء التعديل في السياسة بناء على رؤية تقول إن القوات الموالية لأمريكا، وإن سيطرت على مناطق واسعة في البلاد، إلا أن التأثير الأمريكي فيها يظل محدوداً. إضافة إلى أن البدائل الأخرى تظل قائمة، مثل استثمار مصادر مالية وعسكرية كبيرة على أمل تحقيق نتيجة سياسية غير واضحة، ولا يمكن أن تتجاوز جوهر التحدي الرئيسي في سوريا، وهي أن نظام بشار الأسد قد انتصر في الحرب، واستثمار كهذا لا ينصح به، وليس قابلا للتحقيق.
إلا أن قراراً أمريكياً لسحب القوات، من سوريا لن يكون جيداً في ضوء الانسحاب الفوضوي من أفغانستان وسيهز ثقة الحلفاء بالولايات المتحدة.
ولكن الحفاظ على الوضع الراهن يحمل معه مخاطره، فساحة المعركة في سوريا باتت معقدة، وتعمل القوات الأمريكية وروسيا وقوات النظام قريبا من بعضها البعض. يضاف إلى هذا زيادة الهجمات من الجماعات الشيعية الموالية لإيران، وتستهدف بشكل متزايد المواقع الأمريكية، بالإضافة لتهديدات جديدة من تركيا باستهداف الأكراد. ومن هنا فإن إدارة بايدن تحتاج لأن تعالج أسئلة مثل: هل استمرار الوجود العسكري الأمريكي في سوريا ضروري؟ وإن كان الجواب بنعم، ماهي الكلفة؟
تتمسك إدارة بايدن بأمل تحسن الأوضاع بشكل يفتح الباب أمام تسوية سياسية. والحقيقة أنه مع مرور كل يوم تتزايد المخاطر وتضعف أوراق المقايضة الأمريكية في ما يتعلق بما يمكن لواشنطن الحصول عليه من الأسد وروسيا مقابل رحيلها.
إدارة بايدن بحاجة للتفاوض على إستراتيجية خروج وبأسرع وقت ممكن وتأمين هدفيها الأساسيين في سوريا: الحصول على منفذ بالأجواء السورية، وحماية السوريين الذين قاتلوا إلى جانبها لهزيمة تنظيم داعش.
قرار أمريكي لسحب القوات من سوريا لن يكون جيداً في ضوء الانسحاب الفوضوي من أفغانستان وسيهز ثقة الحلفاء بالولايات المتحدة.
سوريا تتحول، وبشكل متزايد، لمناخ خطير للعمل، ولكن تنظيم “داعش ليس المسؤول عن زيادة العنف. فبحسب المنظمة غير الربحية “أرمد كونفليكت لوكيشن وإيفنت داتا” فإن أحداث العنف، مثل القصف المدفعي، زادت بنسبة 20% في هذا العام. العنف جاء من لاعبين دوليين، بمن فيهم النظام السوري وتركيا. وبالمقارنة فإن مسار النشاطات لتنظيم داعش في تراجع، وذلك حسب تقرير من المفتش العام لوزارة الدفاع.
وأعلن تنظيم داعش عن 201 هجوم في الفترة ما بين 1 نيسان و30 حزيران، وهي أقل بنسبة 60% عن نفس الفترة قبل عام. ورغم استمرار تهديد التنظيم في سوريا والعراق إلا أنه فقد القدرة على تنسيق عمليات واسعة فيهما أو التخطيط لهجمات في الخارج.
كل هذا يعني أن نشاطات 900 جندي أمريكي في سوريا قد تراجعت عن الذروة. ولا تزال القوات الأمريكية تقدم الدعم للحلفاء في سوريا، بمن فيهم قوات سوريا الديمقراطية، بما في ذلك من دعم استخباراتي ومراقبة واستطلاعات ودعم لوجيستي. وقدمت القوات الأمريكية في كانون الثاني دعماً لقوات سوريا الديمقراطية من أجل السيطرة على سجن في الحسكة، شمال شرق سوريا، بعد سيطرة مقاتلي تنظيم داعش عليه لتحرير المقاتلين فيه. وقتل في العملية أكثر من 500 شخص، بمن فيهم 21 عنصرا من قوات سوريا الديمقراطية.
وبالمجمل لم تعد القوات الأمريكية تدير الكثير من العمليات المشتركة مع قوات سوريا الديمقراطية. وبحسب التقارير من وزارة الدفاع والأكراد فلم تشترك القوات الأمريكية و قوات سوريا الديمقراطية إلا في عمليتين هذا العام.
وتغيرت العمليات الأمريكية وتحولت إلى أماكن لا تحتفظ فيها أمريكا إلا بعدد قليل من القوات، فبدلا من تركيزها في شمال شرق سوريا، نفذت القوات الأمريكية عمليات في مناطق مثل إدلب ومناطق أخرى تقع اسميا تحت سيطرة المعارضة. وقتلت زعيمين للتنظيم في إدلب، أبو بكر البغدادي عام 2019 وأبو إبراهيم الهاشمي القرشي عام 2022. وفي حزيران اعتقلت القوات الأمريكية صانع متفجرات تابع لتنظيم داعش في قرية قرب حلب تسيطر عليها المعارضة التي تدعمها تركيا. وقتل هدف ثمين لتنظيم داعش، بمسيّرة في منطقة ليست بعيدة. وفي غارة أخرى استهدفت عناصر من تنظيم داعش في قرية خاضعة لنظام الأسد.
ويظهر التحول من مركز الحرب ضد تنظيم داعش أن الولايات المتحدة قادرة على ملاحقة وقتل عناصره في أماكن لا يوجد لها وجود عسكري فيها. وربما كان هذا جيدا، فالوجود العسكري على الأرض ربما كان مفيدا، لكنه لا يخدم بالضرورة مصالح الأمن القومي. وحتى مع تراجع عنف تنظيم داعش، فالمخاطر على القوات الأمريكية متزايدة، ولكن من مصدر آخر، وهو روسيا التي احتفظت أمريكا معها باتصالات مهنية، إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا زاد من توتر العلاقات.
ودخلت الطائرات الروسية في عدد من الحركات الخطيرة، ففي حزيران استهدفت المقاتلات الروسية جيش مغاوير الشام، وهي جماعة معارضة في حامية التنف، وهي قاعدة عسكرية أمريكية واقعة داخل منطقة تخفيف التوتر التي احترمتها روسيا مرة. ويقال إن الروس أخبروا الأمريكيين بالعملية قبل نصف ساعة، مما يزيد من مخاطر المواجهة غير المقصودة بين روسيا وأمريكا. وتركت الحرب في أوكرانيا أثراً آخر، ففي الوقت الذي حولت فيه روسيا مصادرها إلى الحرب مع جارتها في أوروبا الشرقية، ملأت إيران الفراغ في سوريا، وأصبحت أكثر تأثيرا ولا تبالي من المخاطر. واستهدفت الجماعات الموالية لطهران القوات الأمريكية بنيران مباشرة وغير مباشرة في العراق وسوريا. وردت الولايات المتحدة في آب على تسعة من المواقع غير المأهولة للميليشيات ونقاط التفتيش بعد استهدافها المواقع الأمريكية مرتين.
حتى مع تراجع عنف داعش، فالمخاطر على القوات الأمريكية متزايدة، ولكن من مصدر آخر، وهو روسيا.
وربما استخدمت إيران المفاوضات بشأن الملف النووي التي تجمدت لزيادة الضغط على واشنطن وتأمين ما لم تحصل عليه في المفاوضات.
وزادت تركيا، عضو الناتو وحليفة أمريكا، من الضغوط لتأمين حدودها من الهجمات الكردية، وبناء منطقة عازلة من 19 ميلا داخل الأراضي السورية لعودة اللاجئين السوريين إليها. وعقدت تركيا وإيران وروسيا لقاء ثلاثيا في حزيران حيث وسعت تركيا من هجمات الدرون وشنت هذا العام 56 غارة قتلت 50 من مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية. وحمل الأكراد روسيا المسؤولية، على أنها أعطت الضوء الأخضر لتركيا، ولاموا كلا من روسيا وأمريكا بعدم عمل شيء. وأدت نشاطات تركيا في شمال شرق سوريا إلى إضعاف الموقف الأمريكي لأنها حرفت انتباه المقاتلين الأكراد عن محاربة بقايا داعش وأجبرتهم للبحث عن دعم من روسيا ونظام الأسد. وسهلت قوات سوريا الديمقراطية هذا العام إعادة انتشار للقوات السورية من أجل منع التوغل التركي. وربما زادت المخاطر مع قرب الانتخابات التركية عام 2023، ذلك أن أردوغان قد يخاطر من أجل منع الهزيمة.
وأدى وباء كوفيد والأزمة الاقتصادية العالمية لإضعاف سيطرة الأكراد على مناطقهم، حيث تقوضت بسبب الوضع الاقتصادي الخطير وغياب العناية الصحية. وانتشر وباء الكوليرا بالمنطقة بـ 2.000 حالة منذ 10 أيلول وعشر وفيات.
وتسهم العقوبات الأمريكية على سوريا بإضعاف الاقتصاد الوطني الذي تعتمد عليه شمال شرق سوريا. وتحاول الولايات المتحدة دعم السوريين وتوفير دعم مدهش، وقدمت 1.5% مليار دولار كمساعدات إنسانية في 2022.
لو خرجت الولايات المتحدة بطريقة غير منسقة فالنتيجة هي عملية عسكرية تركية لتحقيق أهداف أردوغان المعلنة، تدخل قد يؤدي لتشريد مئات الألاف.
وجمدت إدارة دونالد ترامب المساعدات الإنسانية في آذار/مارس 2018، ذلك أنها كانت تفكر بالانسحاب، وقررت إدارة بايدن رفع التجميد عنها. إلا أن المساعدات لا تتناسب مع الاحتياجات الكبيرة. ولم تقصد أمريكا وشركاؤها في التحالف ضد داعش القيام بإعادة إعمار المناطق التي دمرتها الحرب. بل كان الهدف هو استعادة المناطق وإصلاح البنى التحتية الضرورية وتوفير الخدمات. وقدمت الولايات المتحدة منذ عام 2011 أكثر من 1.3 مليار دولار في عمليات إحلال الاستقرار. وبدون دعم الغرب فالإدارة الكردية لا تستطيع إدارة المناطق وتوفير الرواتب للموظفين في المناطق الكردية والسنية. وهي وإن استثمرت في النفط الذي تبيعه للنظام في دمشق إلا أنه ليس كافيا لتوفير الخدمات على المدى الطويل، علاوة على إعادة إعمار ما دمرته الحرب، ويزعم المسؤولون المحليون أن نسبة 30% من مدينة الرقة لا تزال أنقاضا، وبعد 3 أعوام من نهاية العمليات العسكرية الكبرى. وهي كانت قد تُركت مهملة وسكانها مهمشون. ودفعت الظروف للرحيل إلى الخارج عبر المهربين لمن يملك المال أو ينضم إلى تنظيم داعش. ولا يزال الأخير خطرا إلا أنه بدون منطقة آمنة على خلاف الفترة ما بين 2015- 2019 عندما سيطر على أجزاء من سوريا والعراق. وهذا يعني أن القوات الأمريكية حققت أهدافها الرئيسية. ويجب على الولايات المتحدة مواصلة عملياتها مع قوات سوريا الديمقراطية بدون تعريض حياة الأمريكيين للخطر.
ويجب على الولايات المتحدة مواصلة عملياتها لاستهداف ناشطي تنظيم داعش وعبر التنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية. وكذا استخدام الناشطين في المناطق التي لا يوجد فيها قوات أمريكية. ونجح هذا النهج في السنوات الماضية، حيث يمكن أن تنسحب القوات الأمريكية بطريقة ودية وبدون أن تؤثر على العلاقات مع الشركاء في سوريا، ولكي تواصل أمريكا الاستفادة من المصادر الأمنية البشرية والحصول على منفذ للأجواء السورية.
ورغم التوتر الجيوسياسي فالتوافق والتنسيق مع روسيا هو الشيء الوحيد لتحقيق هذه الأهداف. ولو خرجت الولايات المتحدة بطريقة غير منسقة فالنتيجة هي عملية عسكرية تركية لتحقيق أهداف أردوغان المعلنة، تدخل قد يؤدي لتشريد مئات الألاف وتخريب علاقة قوات سوريا الديمقراطية مع أمريكا. وفي الوقت نفسه، لن يتمكن نظام الأسد من السيطرة على كل المناطق التي تحتلها قوات سوريا الديمقراطية، ولو غادرت الولايات المتحدة فالحل هو على الأرجح تسوية برعاية روسية، تضمن وجوداً اسمياً للنظام. إلا أن هذا لن يغير من الواقع، ويمثل تهديداً لشركاء الولايات المتحدة، وبخاصة أن النظام قد يحاول اعتقال وقتل المسؤولين البارزين في قوات سوريا الديمقراطية لإضعاف التأثير الأمريكي في المناطق.
جمدت إدارة دونالد ترامب المساعدات الإنسانية في سوريا في آذار 2018، ذلك أنها كانت تفكر بالانسحاب.
ومن هنا يجب أن تقوم واشنطن بكل ما بحوزتها لتحديد جرائم النظام عبر الدبلوماسية والضغوط الاقتصادية. وعليها أن تطالب الشركاء العرب، الإمارات العربية تحديداً، التي طبّعت العلاقات مع الأسد لكي تعمل نفس الأمر. وأثبتت إسرائيل قدرة على الدخول للأجواء السورية عبر الدبلوماسية والقوة الغاشمة ضد الأسد. ومن هنا فإن خروجاً أمريكياً فضفاضاً سيكون مهما وتحصل فيه الولايات المتحدة على منفذ للأجواء السورية والحق بالدفاع عن مصالحها لو تعرضت لتهديد من النظام أثناء قيامها بعمليات ضد داعش . وبعد سبع سنوات من دخول القوات الأمريكية سوريا حان الوقت لواشنطن لكي تسحب قواتها، فالوجود الأمريكي في سوريا ليس رصيدا إستراتيجياً، إنه مكمن ضعف.
المصدر: مجلة الفورين أفيرز