يبدو أن شعار “لنترك العراقيين يصفّون حساباتهم بينهم” هو الشعار المتقدم على غيره من الشعارات في واشنطن، فهم يعلمون الصعوبات اللوجستية التي صنعوها منذ عام 2003 وأولها حل الجيش الوطني العراقي.
وضع سياسي منهار
ينبغي عدم الضياع في تفصيلات الوضع السياسي المنهار في العراق لأن في ذلك تُغيّب الحقائق الجوهرية الواضحة التي أدت إلى ما هو عليه شعب العراق والمصير المحتوم لهذا النظام. تلك الحقائق ليست دعوات سياسية أو اجتهادات نظرية، بل واقع مرّ دفع خلاله العراقيون أثماناً من دماء أبنائهم الزكية خلال التسعة عشر عاماً الماضية.
صانعا النظام في كل من واشنطن وطهران مرتكبان وقلقان من احتمالية السقوط المفاجئ غير المحسوب لنظام بغداد الحالي، رغم أن بعض الدوائر الأميركية الخاصة بالاستراتيجيات، أو غيرها، تعلم وأمام أنظارها حقائق لأنظمة في المنطقة وخارجها أقل فساداً واستبداداً وتجويعاً لشعوبها سقطت على يد شعوبها الثائرة خلال أيام.
الساسة الأميركان، بصنفيهم الجمهوري والديمقراطي، تجاهلوا هذه الحقائق لكي يتهربوا من فضحيتهم ومسؤولياتهم التاريخية في إسقاط دولة العراق العتيدة، وصناعة هذا النظام الفاسد عام 2003 تحت مبررات أصبحت في أرشيف هزالة أنصاف السياسيين، في بلد يعتد قادته السياسيون بأنهم أسلاف صناع الديمقراطية الجديدة في العالم. إنهم كذاك المقترف للإثم الكبير يقف عند حدود الاعتراف ولا يريد تصحيح مساره لأن تكاليفه مرتفعة.
أما نظام ولي الفقيه فللقصة العراقية معان أخرى، تختزل بحقيقة استمرار وجوده من عدمه، فرغم انتشار نفوذه في العواصم العربية، بيروت وبغداد ودمشق وصنعاء، إلا أن زوال الطبقة الحاكمة الحالية في العراق يعني دخول نظام طهران في منطقة سقوط الهاوية التاريخي.
هذه الحقيقة المباشرة تدفع نظام طهران للحفاظ على استمرار حياة وكلائه في حكم العراق، بكل ما يمتلكه من أسلحة سياسية وإعلامية، قد تصل في نهاية المطاف إلى أسلحة القتل والفوضى والحرب الداخلية. لا يهم بالنسبة إلى ساسة طهران أن يكون الضحية شيعيا مواليا لوطنه أم سنّيا أم كرديا.
وفق سياق الديمقراطية الأميركية الحرة، تظهر بعض المقالات والتقارير والتحليلات التي غالباً لا تُسمع من صانعي القرار الأميركي توثق إخفاقات سياسة بايدن في الملف العراقي
الظرف المرحلي الحالي صعب وشاق على نظام طهران للخروج من مأزق الاتفاق النووي، رغم التسهيلات والانبطاح التاريخي المُذل للرئيس الأميركي جو بايدن؛ فإذا ما خرج منتصراً، وهذا متوقع، ستنفرج أمامه حلول الحفاظ على نظام بغداد عبر ميليشياته، وسيكون شرساً وعنيداً تجاه المتمرّد مقتدى الصدر مثلما كان عام 2019 ضد ثوار أكتوبر العظماء.
في مؤشرات الحالة العراقية الراهنة، على ضفتي واشنطن وطهران، وما يمكن أن تقود إليه، نجد على الضفة الإيرانية وبخلاصة شديدة ما يلي:
ما زال نظام ولي الفقيه الإيراني محتفظاً بالكثير من الخيارات السياسية، التي يعتقد بأنها ستحافظ على بقاء منظومة الحكم التابعة له، عبر مؤسسته الإرهابية الحرس الثوري، لضخ النصائح السياسية لمجموعة من وكلائه الجهلة المارقين، إضافة إلى تسريب الآلاف من أفراد الحرس الثوري إلى داخل العراق.
حالياً يناور على مستوى السياسة والإعلام قبل اضطراره للدخول في خيارات الصدام المسلحّ، لسبب مهم أنه يعرف تداعيات الصدام الشيعي – الشيعي المسلح. لهذا يواصل إغراق مساحة الرأي العام الشعبي العراقي بتفصيلات أزمة صراع الصدر مع خصومه الولائيين. تلك نظرية إعلام وحرب نفسية بائدة من زمن حرب هتلر وستالين، ورثها علي خامنئي عن الخميني ونفذها بلؤم ضد شعوب إيران المناضلة، هدفها صرف الأنظار عن الأسباب الجوهرية لمأزق النظام الحالي وانهياره الحتمي، إذا ما توفرت العناصر والوسائل والأدوات السياسية والتنظيمية الوطنية لإدارة قوية لمرحلة التغيير.
رغم الشعور المُخدّر المؤقت عند ملالي طهران بأن فرضية “صرف الأنظار” فعّالة في التأجيل الزمني لحسم المعركة لصالح الشعب، لكنها أفرزت خلال الأيام الماضية ظواهر ونتائج عرضية أكثر فضائحية وخطورة على تماسك قادة النظام وأزلامه وأتباعه في بغداد بغض النظر عن انتسابهم الطائفي. حين وجد القادة الولائيون في كشف تورط بعض قادة أحزاب ووزراء وقضاء حالة ستُبعد الأنظار مؤقتاً عن أدواتهم، فلا بأس بذلك.
على قاعدة التضحية بالسمك الصغير لحماية “الكوسج” الكبير، باعتقاد جاهل ومتخلف من أصحاب هذه اللعبة القديمة سيكسبون الوقت في تأجيل المواجهة الحاسمة بينهم وبين الشعب، متناسين إيغالاً في جريمة إهانة شعب العراق، وبأن ملايينه الجائعة والمحرومة من أدنى الحقوق الإنسانية قد شخصت وأدانت تلك المافيات الصغيرة من مرتزقة السنة والأكراد في وقت مبكر؛ منذ تخليهم عن واجباتهم تجاه ملّتهم.
نظام طهران يجد كذلك أنه من المُبكّر الدخول في تنفيذ آلية التضحية بالسمك الصغير من السنّة، وقد يلحق بهم التابعون الأكراد لكن بشكل مقلوب على السياسيين الشيعة؛ التضحية بالكوسج الكبير الهرِم المتفّسخ لصالح الأسماك الصغيرة الحيوية النشطة. لكن وكجزء من الأنانية المفرطة والشعور بالغطرسة المافيوية المهزومة لهذه “الكواسج من عظام” لم تسمح بخلق ما يسمّى بالخط الثاني في العمل القيادي السياسي والحزبي. لقد تحولوا إلى مجموعات عوائل وسلالات داخل إمبراطورية الفساد النتنة.
صانعا النظام في كل من واشنطن وطهران مرتكبان وقلقان من احتمالية السقوط المفاجئ غير المحسوب لنظام بغداد الحالي
هل سيصل قادة نظام طهران إلى لحظة التضحية بهذه الرموز الرثة التي جثمت على صدور أبناء العراق لعشرين عاماً، ببدائل أخرى قد تكون أكثر خطراً وأذى على الشعب، من أجل الحفاظ على النظام القائم وعدم ضياعه من أيديهم، في صفقة مؤقتة ماكرة مع مقتدى الصدر؟ لكن ردود فعل تلك المافيات أنها قد تتمرد على وليّ أمرها، فهي تمتلك المبررات الوهمية لتلك الخطوة الانتحارية.
مما يزيد الحال تعقيداً وغموضاً، سماح طهران وواشنطن بحرب التسريبات حول نقاط السيطرة على المال والنفوذ، كذلك حول استهداف حياة مقتدى الصدر إذا تطلب الأمر ذلك.
لو انتقلنا إلى الضفة الأميركية من شراكة النفوذ في العراق التي أصبحت جزءاً من الماضي، نجد أن الرؤساء الأميركان، بعد صاحب الجريمة التاريخية الكبرى ضد شعب العراق جورج بوش الابن، وجدوا أن تكاليف احتلالهم ونفوذهم في العراق كانت مكلفة بشرياً ومادياً دون مردود على المستوى الاستراتيجي ولا حتى الاقتصادي والسياسي.
هذا الانكفاء والتخلّي عن العراق لصالح إيران بدأه بارك أوباما (2009 – 2017) في جدلية غامضة ما زالت تثير تساؤلات كثير من الأوساط حول مدى صحتها وتعبيرها عن المصالح الأميركية العليا، أم هي ألغاز ذات أبعاد أيديولوجية وفكرية كشفتها سلسلة بيانات “أوباموية” حول العرب والفرس، وقصص أخرى ليس مجالها هذه السطور.
تبع أوباما الجمهوري دونالد ترامب، بذات الخط، عبر شعار أميركا أولاً، وكأن ابن حزبه جورج بوش حين أرسل 170 ألف جندي إلى العراق قُتل منهم أربعة آلاف كانت أميركا في آخر أولياته.
وأخيراً، الرئيس الحالي جو بايدن الذي حوّل خبرته الهزيلة الكاذبة بالملف العراقي إلى أدنى مستويات التعاطي مع المصالح الأميركية في العراق والمنطقة.
رغم انتشار نفوذ نظام ولي الفقيه في العواصم العربية، بيروت وبغداد ودمشق وصنعاء، إلا أن زوال الطبقة الحاكمة الحالية في العراق يعني دخول نظام طهران في منطقة سقوط الهاوية التاريخي
لقد حول الرئيس بايدن 2021 معرفته السطحية القديمة بالعراق وسياسييه الذين لا يتشرف أيّ سياسي عالمي محترم أن يجالسهم، لا من حيث الاحتراف السياسي ولا الإخلاص لقضية بلدهم، إلى حلقة من مشروع سيده أوباما؛ تسليم عراق مُفكك منهار لتلتهم إيران خيراته وتبني قاعدتها الخطيرة منه ضد عرب المنطقة.
صحيح ما يقال عن دوافع المصالح في التعاطي الدولي. لكن، ما هي المصلحة الوطنية الأميركية في التعجيل الأعمى بالاتفاق النووي مع طهران، الذي ستستلم بعد توقيعه فوراً المليارات من الدولارات توظفها تلقائياً لنشاطاتها التخريبية في العراق ومنطقة الخليج، وليس لسد جوع الملايين من الإيرانيين.
هناك إجماع سياسي، حاكم وغير حاكم، وباحثون في المراكز الأميركية الكبيرة على حماية النظام السياسي القائم في العراق، رغم جميع الفظائع التي ارتكبها في مجال حقوق الإنسان ومسلسل النهب الملياري، الذي لو حصل في أي بلد في العالم لتم اقتياد مسؤوليه إلى محاكم دولية وليست محلية.
دائماً تتقدم شعارات ودعوات الحفاظ على ديمقراطية القتل والنهب والفساد في العراق جميع التصريحات والتعقيبات الأميركية، إلى جانب ما يخرج من مواقف دبلوماسية أميركية، وهذا ما يزيد قادة المافيات اطمئناناً على مستقبلهم من أميركا “العدوة” إضافة إلى الولي الإيراني.
لا توجد مبررات منطقية لهذا التراجع والتخلي عن مسؤوليات واشنطن تجاه شعب العراق، لو اكتفت مثلما يقال بموقف الحياد ما بين شعب العراق والنظام الذي يسعى إلى تغييره، لا أن تطلق التقارير والتحليلات من مراكز البحوث الداعمة لاستمراره، يبدو أن بعضها ناتج عن نشاط اللوبي الإيراني في واشنطن وبعضها الآخر “يهودي” من منظمات معروفة في عنصريتها.
وفق سياق الديمقراطية الأميركية الحرة، تظهر بعض المقالات والتقارير والتحليلات التي غالباً لا تُسمع من صانعي القرار الأميركي توثق إخفاقات سياسة بايدن في الملف العراقي، ليس من أجل العراقيين، لكنها لعبة التنافس الحزبي التقليدية بين الجمهوري والديمقراطي. مثال ذلك تقرير معهد واشنطن تحت عنوان “سيناريو خطف النصر من فك الهزيمة”، يشير إلى فرصة غير مسبوقة توفرت للولايات المتحدة لتحجيم النفوذ الإيراني في العراق من خلال نتائج الانتخابات الأخيرة وتصويت العراقيين لصالح أحزاب سياسية بعيدة عن التأثير الإيراني، إلا أن واشنطن فشلت في أن تضع العراق على قائمة أولوياتها.
يبدو أن شعار “لنترك العراقيين يصفّون حساباتهم بينهم” هو المتقدم على غيره في واشنطن. هم يعلمون الصعوبات اللوجستية التي صنعوها منذ عام 2003 وأولها حل الجيش الوطني العراقي لكي لا يصبح منقذاً لشعبه من الجواسيس والفاسدين.
د. ماجد السامرائي – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة