هناك عدة عناصر مؤثرة في المشهد الليبي أبرزها أن مفهوم الدولة لا يزال غائبا عن نسبة مهمة من أبناء الشعب حتى أن الانتماء إلى القبيلة يبدو أقوى من الانتماء إلى الوطن.
المجتمع الدولي أثبت عجزه في مواجهة الحالة الليبية
أثبت المجتمع الدولي عجزه في مواجهة الحالة الليبية. قبل أيام قليلة كانت هناك أصوات لا تزال ترتفع بالتأكيد على تنظيم الاستحقاق الرئاسي في موعده المحدد، رغم أن كل المؤشرات تدل على أن الأمر بات من رابع المستحيلات أمنيا وتقنيا، وبالأخص سياسيا، فهناك أطراف لا تزال ترفض تبادل الاعتراف في ما بينها وكل منها يعتبر نفسه صاحب امتياز القوة والسلطة.
تحتاج ليبيا إلى رئيس توافقي يحظى باحترام الجميع من تيارات فبراير وسبتمبر و”الكرامة” ومن الغرب والشرق والجنوب، ومن البدو والحضر والأقليات، وأن يكون مقبولا من مختلف الأطراف والقوى الإقليمية والدولية المؤثرة سواء بالتدخل المباشر أو غير المباشر.
لكن هذه الشخصية غير موجودة، وإذا وجدت فهي بعيدة عن واجهة السباق، لأنها ببساطة غير مدفوعة بعصبية قبلية أو مناطقية، ولا مفروضة ببطش الميليشيات وقوة السلاح، ولذلك فإن من يتصارعون على كرسي الرئاسة هم في أغلبهم من المثيرين للجدل، إما مدعومون بقوة من أنصارهم، أو مرفوضون بشدة من أعدائهم ولا وسطية ولا اعتدال في تحديد الموقف النهائي منهم.
– المجتمع الدولي نجح في المساعدة على تأسيس الدولة الليبية قبل 70 عاما، لأنها كانت كيانا فقيرا بلا إمكانيات أو مقدرات تذكر، ولم تكن هناك أيديولوجيات قومية أو دينية تتصارع حولها
كان من المنتظر أن تشهد ليبيا الجمعة القادم أول انتخابات رئاسية في تاريخها، ومجرد الحديث عن رئيس لدولة لا يوجد بها قصر رئاسي يمكن أن يكون مثيرا، كما أن الحديث عن انتخاب رئيس من دون قاعدة دستورية، ودون دستور يحدد صلاحياته، قد يدفع البلاد نحو المجهول، ومن سيصل إلى المنصب بإمكانه أن يعلن نفسه دكتاتورا كامل الشروط.
استطاع الملك إدريس أن يقود إلى بناء الدولة بروح وطنية عالية، إلا أن تجربته في تأسيس إمارة برقة ومقاومة الاحتلال الإيطالي وتوحيد الدولة جاءت تحت غطاء التأثير الديني الصوفي من خلال الحركة السنوسية التي تأسست في مكة عام 1837 ثم في عام 1843 في مدينة البيضاء بالجبل الأخضر على يد جده الشيخ الإمام محمد بن علي السنوسي.
عندما تأسست دولة ليبيا في العام 1951، كانت واحدة من أفقر دول العالم، فلا نفط ولا غاز ولا معادن ولا مدخرات، وكان عدد السكان لا يتجاوز المليون أغلبهم في إقليم طرابلس، ولذلك تم التوافق بسهولة على بناء الكيان الفيدرالي تحت إشراف الأمم المتحدة.
أجريت أول انتخابات عامة في ليبيا يوم التاسع عشر من فبراير 1952، تحت رقابة أممية، وشهد ذلك اليوم أعمال شغب أدت إلى سقوط قتيل وإصابة ضابط شرطة بريطاني بعد تبادل لإطلاق النار بين حشد من الناس والشرطة في مصراتة. وكما هو متوقع، فاز حزب المؤتمر بقيادة بشير السعداوي، لكن تزوير النتائج كان سيد الموقف ما جعل الشارع يشتعل بالمظاهرات، فكانت النتيجة حظر الأحزاب السياسية، وتم ترحيل السعداوي إلى مصر، جنبا إلى جنب مع أخيه وابن شقيقه وبعض المؤيدين الآخرين، في حين تم ترحيل وزير حزب المؤتمر إلى تونس.
ورغم أن الملك إدريس كان معروفا بالزهد والصلاح، إلا أنه تعرض خلال حكمه إلى الكثير من الصعوبات والعراقيل، وشهدت البلاد في عهده حركات احتجاجية عنيفة كاحتجاجات 1952، والطلاب في 1964، والعمال في 1967، حتى أن هناك من المتظاهرين من تجرأوا على الهتاف أمام القصر الملكي “إبليس ولا إدريس”.
وعندما جاء معمر القذافي إلى الحكم في الأول من سبتمبر 1969، كان يستند إلى جملة من الشعارات التي كانت سائدة آنذاك، كما استفاد من انتمائه إلى قبيلة صغيرة غير معنية بالصراعات التاريخية إلا من حيث تحالفاتها ضمن الصف الفوقي المعروف بصف أولاد سليمان. وقد حاول القذافي المحافظة على التوازنات القبلية، وجعل من نفسه رمزا للهوية العربية البدوية سواء من حيث السكن (الخيمة) أو اللباس أو الاهتمام بالإبل والخيل والصحراء والفنون التقليدية والتركيز على التراث الشفوي، وإحياء بطولات القبائل في مواجهة الاحتلالين التركي والإيطالي، وذلك بهدف الدفع نحو نسيان تاريخ الحروب الأهلية والخيانات في مجتمع يعرف عنه أن طارد لأبنائه، وهو ما يجعل جغرافيا ليبيا الحالية لا تحتضن أكثر من سبعة ملايين مواطن، فيما هناك أكثر من 40 مليونا من أصول ليبية يعيشون في دول الجوار.
والحقيقة أن القذافي كان يتعمد توجيه اهتمام الليبيين إلى القضايا الخارجية سواء كانت عربية أو أفريقية أو غيرها، وإلى شعارات عامّة كتلك التي تتحدث عن الحرية والديمقراطية الشعبية أو المباشرة، وعن مقاومة الإمبريالية، وذلك في محاولة لتحييد الرأي العام عن الاهتمام بالسياسة الداخلية، إلى أن جاءت أحداث 2011 التي تسببت في حالة من الانقسام بين الليبيين، كانت في البداية بين أنصار سبتمبر (النظام السباق) وفبراير (الثوار)، ثم ومنذ ربيع 2014 حدث انقسام ثان بين أنصار فبراير وأنصار عملية الكرامة التي قادها الجنرال خليفة حفتر انطلاقا من بنغازي ضد الجماعات المتشددة والميليشيات، ورغم أن تيار الكرامة تأسس من داخل منظومة فبراير إلا أنه استقطب الآلاف من عسكريي النظام السابق من ضباط وضباط صف وجنود وناشطين سياسيين واجتماعيين وحقوقيين وإعلاميين وغيرهم، وكان وراء إصدار مجلس النواب لقانون العفو العام في 2015 الذي استفاد منه الأزلام ومن بينهم سيف الإسلام القذافي ليغادر مقر احتجازه في الزنتان في يونيو 2017.
– ليبيا تحتاج إلى رئيس توافقي يحظى باحترام الجميع من تيارات فبراير وسبتمبر و”الكرامة” ومن الغرب والشرق والجنوب، ومن البدو والحضر والأقليات
هناك عدة عناصر مؤثرة في المشهد الليبي، أبرزها أن مفهوم الدولة لا يزال غائبا عن نسبة مهمة من أبناء الشعب، حتى أن الانتماء إلى القبيلة يبدو أقوى من الانتماء إلى الوطن، كما أن فكرة التنظّم السياسي لا تحظى بأي اهتمام لدى أغلب الليبيين، لقد تم حظر الأحزاب منذ 1952، واستمر ذلك الوضع حتى الإطاحة بنظام القذافي، ولم يتم الحسم في ملف إعلان الأحزاب رسميا إلا خلال الأشهر الماضية، عندما كانت قياداتها تتطلع إلى الترشح للانتخابات التشريعية بقوائم حزبية، لكن مجلس النواب قطع أمامها الطريق، وقرّر من خلال القانون الصادر عنه في سبتمبر الماضي أن يتم اعتماد قوائم على الأفراد وليس على الأحزاب، وهو بذلك يعبر عن توجه عام لدى رئيسه وأعضائه يصبّ في إطار التجاهل المتعمد للتنظّم السياسي في البلاد.
نجح المجتمع الدولي في المساعدة على تأسيس الدولة الليبية قبل 70 عاما، لأنها كانت كيانا فقيرا بلا إمكانيات أو مقدرات تذكر، ولم تكن هناك أيديولوجيات قومية أو دينية تتصارع حولها، ولم يكن الليبيون قد عرفوا صدامات حقيقية في ما بينهم، ولم يكن سياسيوهم مرتبطين بمصالح مع الخارج ولا مندمجين في سياسات المحاور الإقليمية والدولية ولا يديرون استثمارات ضخمة من وراء الحدود، ولكن الصورة مختلفة اليوم، فهناك ثروات طائلة تحت الأرض وفي البنوك، وهناك صراعات بالوكالة، وقوى للمناولة السياسية، وهناك مافيات وعصابات تتنافس بقوة على مفاتيح الخزينة، وهناك من يعتبرون أنفسهم أصحاب الأحقية والأولوية في الحكم، سواء بمنطق الكثافة أو الغلبة أو قوة السلاح، ولذلك ستستمر الأزمة إلى أن يتم تجاوز جذورها بالقطع أو بالتطهير على الأقل.
الحبيب الأسود – كاتب تونسي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة