الطبقة السياسية العراقية الحاكمة ما زالت بعيدة جدا عن روح الديمقراطية رغم كثرة كلام أصحابها الخاسرين والفائزين معا عن الديمقراطية واحترام أحكامها وقواعدها وهم كاذبون.
لا شيء يتغير في العراق
سؤال مهم. على مَن العتب، على المطرقة أم على المسمار الذي وضع رأسه تحت ضرباتها؟ بعبارة أوضح مَن المسؤول عن وجود عراقيين يقتلون إخوانهم العراقيين، ويُخربون بلادهم الآمنة الجميلة، هل هو الجار الذي يخون حرمة الجيرة ويسعى للمزيد من التخريب والتعطيل وزرع الفتن والمآتم في دار جاره، أم هو قليلُ الأصل والنبل والشرف والكرامة والمنحرف المارق المؤهل للخيانة والعمالة، بأي ثمن، وتحت أيّ ذريعة؟
إن هذه الأسئلة الملحة هي التي تطرح نفسها، تلقائيا، عندما نتدارس الكيفية التي جرت بها الانتخابات العراقية الأخيرة، ثم طريقة إعلان النتائج، ثم تلقّي الأحزاب والتجمعات الكبيرة للنتائج، ونرصد الأجواء الملبدة المحتقنة التي توحي بأن أمدَ التئام البرلمان الجديد لانتخاب رئيسه الجديد، ثم رئيس الجمهورية، وأخيرا رئيس الحكومة، ليس قريبا، حتى لو لم يستخدم الخاسرون سلاحهم لفرض إرادتهم على الحكومة وعلى الفائزين وعلى المفوضية المستقلة للانتخابات.
فقد جرت الانتخابات العراقية في يوم واحد هو العاشر من أكتوبر الحالي، وكان مقررا أن تُعلن النتائج خلال 24 ساعة. ولكن المفوضية تلكأت وتذرعت ولم تجرؤ على إعلان النتائج إلا بالقطارة، في محاولة منها لتخفيف وقع الكارثة على الخاسرين، وخوفا من اشتعال مواجهة عسكرية (متوقعة) بين أقوياء الميليشيات وأقوياء القوائم الفائزة والجيش والحكومة.
لقد أخطأتْ حكوماتٌ معينة في العراق في فترات متفاوتة حين عمدت إلى رعاية ثقافة البغض الديني أو المذهبي أو العنصري، وإنعاش نزعة العداء لهذه الدولة المجاورة أو تلك، وكان من تحصيل حاصل أن تنشأ هناك
إن هذا وحدَه كافٍ لإفهامنا أن الطبقة السياسية العراقية الحاكمة ما زالت بعيدة جدا عن روح الديمقراطية، رغم كثرة كلام أصحابها الخاسرين والفائزين، معا، عن الديمقراطية واحترام أحكامها وقواعدها، وهم كاذبون.
في المغرب، مثلا، جرت الانتخابات في يوم واحد، كالعراق، وهو يوم الأربعاء الثامن من سبتمبر الماضي، وفي ليل نفس اليوم أعلن وزير الداخلية النتائج، معلنا، بصراحة وحزم وحياد، سقوط الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية (الإخواني)، وبالضربة القاضية. فقد عاقبه الشعب المغربي ولم يمنحه سوى 13 مقعدا، بعد أن كان له في البرلمان السابق 125 مقعدا، ومنَح معارضَه، حزبَ التجمع الوطني للأحرار 102 من المقاعد، وحزب الأصالة والمعاصرة 86 مقعدا، وحزب الاستقلال 81 مقعدا، والأحزاب الثلاثة علمانية ليبرالية خالصة.
وبعد يوم واحد فقط من إعلان النتائج استدعى العاهل المغربي عزيز أخنوش رئيس الحزب الحاصل على أكثر المقاعد، وهو رجلَ أعمال قادم من الأقلية (العددية) الأمازيغية غير العربية، وليس من الأغلبية العددية العربية، وكلفه بتشكيل الحكومة.
وبعد 30 يوما، بالتمام والكمال، تآلفَ حزبُ عزيز أخنوش مع حزب الأصالة والمعاصرة ومع حزب الاستقلال المتجانسيْن مع حزبه في الليبرالية وشكل الحكومة. وبعد ثلاثة أيام فقط منحها البرلمان ثقته، بسهولة، وباشرت عملها في نفس اليوم.، دون قطع طرق وحرق إطارات سيارات وشتائم وتهديد بحرق البلاد والعباد.
وهنا نسأل، لماذا لم يحدث هذا في العراق؟ هل إن الشعب المغربي أكثر تحضرا وتسامحا وعقلانية ووطنية من الشعب العراقي؟
ربما يكون جزءٌ كبير من سبب وجود فرق كبير بهذا الحجم بين الشعبين هو أن دولة المغرب محظوظة أكثر من الدولة العراقية، لأنها لا تجاور إيران وتركيا والأردن وسوريا والسعودية والكويت، ولأن شعبها ملةٌ واحدة، مذهبيا، ولكنها مثلُ العراق، ديمغرافيا وقوميا. ففيها شعبٌ أمازيغيٌ واسع ومهم متواجد في مواقع جغرافية تكاد تكون مشابهة لأوضاع كردستان العراق، وله لغته الخاصة وعاداته وثقافته، ولكنّ وطنية الإنسان المغربي العربي والأمازيغي، معا، جعلت الأغلبية العربية المغربية لا ترى مانعا من الالتفاف حول قائد سياسي أمازيغي، غير عربي، وتمنحه أكثر أصواتها، وتكلفه بقيادة المجتمع المغربي للسنوات الخمس القادمة.
وهذا ما لم يحدث في العراق، اليوم، وقد لا يحدث في مدى آخر بعيد. وقد يكون سبب ذلك هو هذه الجيرة المتعددة التي حكمت عليه بها الجغرافيا فجعلته حبيسا بين ست دول متشاكسة، معه، ومع بعضها، ومتقاطعة ومتعاركة منذ مئات السنين.
الانتخابات العراقية
ففي الفترات القليلة القصيرة التي عرف فيها الشعب العراقي وشعبُ أيّ واحدةٍ من الدول المجاورة نعمة الأمن والاحترام والسلام حين كانت العلاقة بين الحاكم هنا والحاكم هناك عاقلةً ومسالمة ترى أن مدَّ جسور الألفة والمودة، ومبادلة الصناعة والزراعة والعلوم والفنون والتنمية والاستثمار بين الشعبين المتجاورين أنفع لهما من تعب الغش والخداع والتآمر والاستقواء وإنفاق الأموال على شراء الخونة والقتلة والجواسيس من أجل زراعة المزيد من القطيعة، وإشعال المزيد من الحروب.
لقد أخطأتْ حكوماتٌ معينة في العراق، في فترات متفاوتة، حين عمدت إلى رعاية ثقافة البغض الديني أو المذهبي أو العنصري، وإنعاش نزعة العداء لهذه الدولة المجاورة أو تلك، وكان من تحصيل حاصل أن تنشأ هناك، في الجهة المقابلة، ثقافة مشابهة معادية متعالية ناقمة، وكانت النتيجة هي غرق العراق ودول الجوار والمنطقة في خراب البيوت وخسارة الأرواح وضياع الثروات.
ولكن العتب، أيضا، على الدول المجاورة وشعوبها. لأن إحياء أحقاد القرون الماضية من أجل فرض الهيمنة الطائفية والعنصرية الإذلالية على العراقيين، لم يكن، ولن يكون ممكنا ولا سهلا ولا نافعا، لا لها ولا لشعوبها. وفي صفحات التاريخ الخالدة قصصٌ وحكايات عن غزاة كثيرين حاولوا احتلال العراق فطُردوا منه شر طردة.
أليس ممكنا أن تتحول جيرة العراق مع حكومات الدول الست وشعوبها ومواردها وثرواتها وعلومها وفنونها، من نقمة إلى نعمة للعراق وأهله، ولجيرانه أيضا، لو أصبحت أرضُه واحةَ التقاءٍ وتلاقح وتبادل وتعاون وتفاهم، فيعبر منها الإيراني، مثلا، إلى دول غربه، حاملا بضائعه النافعة المجزية، وليس المفخخات والقنابل والصواريخ، ويكون معبراً أيضا لدول المنطقة عبرَهُ إلى إيران وإلى ما وراءها، بسلام؟
ففي الدول الست وفي العراق ثروات تسد عين الشمس، وهي كفيلة بجعل المنطقة أغنى من أوربا كلها، وأقوى، وأكثر أمنا وازدهارا ورخاءً وتحضرا وتقدما في الصناعة والزراعة والتجارة والعلوم والسياحة والآداب والفنون، وقِبلةَ اجتذابٍ غير عاديٍ للمستثمرين. ألن يتغير وجه المنطقة، وربما العالم لو حلت العقلانية والوسطية والواقعية مكان التآمر والغش والابتزاز؟
إن شيئا جديدا مبشرا بالخير القادم لا محالة قد حدث في العراق. فقد أنعشت الانتخابات العراقية الأخيرة الهوية الوطنية، وأحيت الروح التحررية الاستقلالية لدى الشعب والحكومة، معاً، وقد يتحقق الأمل، وينتهي زمن العمالة والخيانة، ويعود العراق وطنا حرا وسعيدا، ويصبح، حينها، واجبا على دول الجوار الست أن تقرأ الرسالة بعناية، وأن تتأكد من أن زمن العقل والحكمة والنوايا الحسنة آتٍ لا ريب فيه، أبى من أبى، وشاء من شاء.
إبراهيم الزبيدي – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة