ما أن أعلن المبعوث الدولي غير بيدرسون موعداً لانعقاد جولة سادسة من اجتماعات اللجنة الدستورية، بدءاً من 18 من الشهر الحالي في مدينة جنيف السويسرية، حتى بدأ السؤال يتواتر عن جدوى هذه اللجنة وجدوى استمرار مشاركة شخصيات من المعارضة السورية والمجتمع المدني فيها، ربطاً بسخرية مريرة من أعمال تلك اللجنة التي فشلت خلال 5 جولات في تحقيق أي مردود أو تقدم، سواء على مستوى تحديد مبادئ عامة أو صياغة بعض النصوص الدستورية، ولو بالحد الأدنى، في التوافق على منهجية واضحة لبرمجة الحوارات وتثبيت النتائج.
قبل عامين، وحين كان ثمة تعويل على دور دولي عموماً، وأميركي تحديداً، بدعم اللجنة الدستورية وتمكينها من تحقيق اختراق في الاستعصاء المزمن للمحنة السورية، بدت المشاركة فيها مفسرة على أنها النافذة الوحيدة التي بقيت مفتوحة للتقدم بالعملية السياسية، بعد أن أغلق النظام وحلفاؤه سبل المعالجات الأخرى، لكن ثمة مياهاً كثيرة جرت، وبات المشهد اليوم مختلفاً، خاصة لجهة ما يصح تسميته الانسحاب التدريجي للبيت الأبيض من أعباء «الشرق الأوسط الكبير» الذي وضع على نار حامية بفعل مشروع أعلنت عنه في مطلع الألفية، الإدارة الأميركية ووزيرة خارجيتها كونداليزا رايس، لتغييره وجعله موسعاً وجديداً، كذا! ولعل بعض الوجوه المستجدة لهذا الانسحاب ما شهدته أفغانستان والعراق، وما تلته من إشارات واضحة تظهر ضعف اهتمام إدارة البيت الأبيض الجديدة بمشكلات المنطقة عموماً، والأزمة السورية خصوصاً، مكتفية بالتركيز على إحياء الاتفاق النووي مع إيران، ما يعني أن المعارضة السورية والمجتمع المدني قد فقدا الجهة الوحيدة الداعمة لهما، التي تمتلك قدرة يحسب حسابها على التأثير في العملية السياسية، زاد الطين بلة ما تبديه واشنطن اليوم من مرونة في تنفيذ عقوبات قانون قيصر، وتغاضيها عن تنامي الرغبة لدى أطراف غربية وعربية للمشاركة في تعويم النظام السوري والتطبيع معه، وإن كان من البوابة الاقتصادية، الأمر الذي منح موسكو مزيداً من الفرص للإفادة من التراجع الأميركي والدولي، وللتفرد برسم المستقبل السوري على هواها، خاصة بعدما نجحت في السير خطوات مهمة لتعويم النظام، وتمكينه من بسط سلطته على أجزاء كبيرة من البلاد، سواء بإزاحة الوجود المعارض من مدينة درعا وأريافها، أو بالتمهيد لخيار عسكري في الشمال السوري يحاصر مناطق الجماعات المسلحة ويضعف نفوذها، أو بالضغط على القوات الكردية في شرق البلاد لتطويع موقفها، وقد توسلت قيادة الكرملين تحالفات إقليمية ومؤتمرات مختلفة لفرض حل سياسي وفق رؤيتها وبخطوات تمكنها من ترجمة نصرها العسكري بمكاسب على الأرض، حتى يساعدها في استمالة الغرب والمجتمع الدولي عبر المبالغة في إشهار بعض الإصلاحات البسيطة لمؤسسات الدولة من دون أن تؤدي إلى تغيير في بنية النظام القائم ومقومات استمراره، الأمر الذي يتقاطع إلى درجة كبيرة مع سياسة طهران الرافضة لأي تنازلات جوهرية أو أي معالجة سياسية تضعف النظام السوري، خاصة أنه يمكنها اليوم اقتناص الفرصة لملء الفراغ الذي يخلفه الانسحاب الأميركي من المنطقة، واستثمار لهاث البيت الأبيض لإرضائها واستمالتها من أجل إنجاح مفاوضات الملف النووي.
وأيضاً قبل عامين كان بالإمكان تبرير المشاركة في اللجنة الدستورية من خلال تعويل البعض على ضغوط بدا أن موسكو كانت تمارسها لإكراه النظام السوري على المشاركة في المفاوضات السياسية، لكن اليوم غابت تماماً الإشارات التي توحي برغبة موسكو في التعاطي، ولو بطريقتها، مع محتوى القرار الأممي 2254 بدءاً بوقف القتال والتدمير وضمان مناخ صحي لعودة اللاجئين والمهجرين، مروراً بإجراء انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف أممي، وانتهاءً بقيام حكم انتقالي يقود البلاد للتعافي من نتائج ما خلّفه العنف.
الحقيقة تقول إننا أمام بنية تكوينية لسلطة معجونة بتاريخ طويل من القهر والغلبة مهمتها إخضاع المجتمع ونشر الخوف والرعب في نفوس أبنائه وإبعادهم عن السياسة والمشاركة في إدارة شؤونهم، تحدوها الثقة بأن العمل المجدي لدوام السيطرة ليس الاستجابة لمطالب الناس ومعالجة مشكلاتهم ونيل رضاهم، بل الاستمرار في إرهابهم وإذلالهم وشلّ دورهم.
والتجربة تقول إن السلطة السورية التي توسلت مختلف أساليب الفتك والتنكيل ضد السوريين وأنكرت الأسباب الموضوعية لثورتهم ودأبت على إفشال مختلف الحلول السياسية، والتي رفضت وهي في شدة أزمتها وضعفها تقديم بعض التنازلات، هي بداهة لن تتنازل اليوم وقد أغراها ما تحقق من تقدم عسكري، وما تلمسه من مرونة في تخفيف عزلتها والضغوط عليها، ما يعني أن نهج السلطة القديم لا بد أن يزداد زخماً وقوة، وأنها بمنطق العنف والغلبة ذاته ستعمل لفرض سطوتها على المجتمع واستعادة نفوذها على ما تبقى من مناطق خارج سيطرتها، وتالياً لرفض أي خطوات سياسية، مهما بدت صغيرة، حتى في حدود التوافق على دستور جديد، تفصّل غالبية بنوده وفق رغباتها وأهوائها، خاصة أن أهم رموزها تتحسب من المساءلة والمحاسبة، وتدرك أن خطوات المسار السياسي لا بد أن تكشف دورها ومسؤوليتها في معضلات الخراب الوطني والضحايا والمعتقلين والفساد وهذا التردي المريع للأوضاع المعيشية.
والمنطق يقول بوجوب وقفة شجاعة من قبل شخصيات ذات صدقية في اللجنة الدستورية، سواء أكانت تنتمي لكتلة السلطة أو المعارضة أو المجتمع المدني، تعلن فيها صورية هذه اللجنة وعبثية اجتماعاتها، ليس فقط كوقفة للتاريخ أو لإدانة تعنت النظام وحلفائه وارتكاباتهم، أو لتبرئة أنفسهم ورفض تحويلهم إلى شهود زور عما يجرى، وإنما أيضاً للتحرر من خضوعهم لإملاءات الآخرين ولإحياء الوجه الوطني لمهمتهم ودورهم، عسى أن يشكلوا في وقفتهم هذه، على الرغم من صعوبة وتعقيدات تحقيقها، وسيلة ضغط لا يزال المبعوث الدولي غير بيدرسون يبحث عنها، حين أشار عند إعلان موعد اجتماعات اللجنة الدستورية، فإن الوقت حان للضغط من أجل تطبيق كامل لقرار مجلس الأمن رقم 2254 وإنجاز دستور حضاري، يحصن مبدأ تداول السلطة ويتوافق وقيم المواطنة والعدالة وحقوق الإنسان، أو على الأقل، لإحراز تقدم جدي في ملف المعتقلين والمختطفين والمفقودين، كي يشكل ذلك، على حد تعبيره، رسالة إلى جميع السوريين بأن السلام ممكن!.
أكرم البني – كاتب سوري – الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة