ذكرى 11 سبتمبر هذه المرة مختلفة فطالبان التي صوّرت للعالم أنها “تعض أصابعها ندماً” على موقفها حيال تنظيم القاعدة ستعود لترخي فكيها عن نفس الإصبع التي كانت مستعدة للضغط على الزناد.
ملامح جديدة للنظام العالمي
تتوجه كل الأنظار إلى أفغانستان التي تتصدر المشهد السياسي الإقليمي والعالمي اليوم، ودون منازع، فما يجري هناك من أحداث قد يغير من شكل الصراع المستمر بين الأقطاب الكبرى المتناحرة في العالم، ويرسم ملامح جديدة للنظام العالمي وخرائط توزع النفوذ القائمة، كما حدث منذ 20 عاماً بالضبط عندما شهد عام 2001 في مثل هذا اليوم استهداف برجي مركز التجارة العالمي ومقر وزارة الدفاع الأميركية – البنتاغون، في هجوم أسفر عن الآلاف من الضحايا تبناه تنظيم القاعدة من أفغانستان نفسها، لتعلن على أساسه الولايات المتحدة حربها على الإرهاب، تلك الحرب التي غيرت كثيراً في الموازين الدولية، ومازالت تغير إلى اليوم، وكان كل ما بعدها ليس كما قبلها.
كان هذا الحدث واحداً من أكبر الصدمات العالمية، لقد وقف العالم أمام الشاشات مشدوها غير قادر على تفسير ما يجري، ولم تكد تمر أيام حتى بدأت التحليلات تطفو على السطح، فكانت النظريات القائلة بوجود اتفاق وتنسيق بين العاصمة واشنطن وأجهزة مخابراتها من جهة وطالبان من جهة أخرى حاضرة بقوة، حالها حال نظريات مضادة تتحدث عن تعرض الأمن العالمي عموماً والأميركي على وجه الخصوص لخطر إرهابي جديد قد يتوغل في العواصم الأوروبية والمشرقية معاً، وكل ما بين هذين الطرفين من مروحة احتمالات. لكن، اليوم وبعد عشرين عاماً لم يعد لأي من هذه النظريات أهمية كبيرة، خاصة وأن الرئيس السادس والأربعين لأميركا جو بايدن قرر الانسحاب الكامل من أفغانستان وتنفيذ الوعد الذي لم يفِ به سلفه الديمقراطي باراك أوباما.
ستكون ذكرى أحداث 11 سبتمبر هذه المرة مختلفة عن سابقاتها، فطالبان التي صوّرت للعالم نفسها خلال السنوات الماضية على أنها “تعض أصابعها ندماً” على موقفها حيال تنظيم القاعدة مطلع الألفية، والذي تسبب بدخول القوات الأميركية وقوة المعاونة الأمنية الدولية في أفغانستان (إيساف)، وحلت محلها فيما بعد عملية التدريب “الدعم الحازم”، ستعود لترخي فكيها عن نفس الإصبع التي لطالما كانت مهيئة ومستعدة للضغط على الزناد.
لاقى قرار الانسحاب من أفغانستان دعماً في أروقة صنع القرار الأميركي، كما ساند حلفاء أميركا في أوروبا الرئيس بايدن بشكل واضح، وخرجت تصريحات مختلفة تقول بإمكانية إقامة علاقات دبلوماسية مع طالبان، أي إعطائها الشرعية الدولية كحكومة وتحولها من حركة إرهابية إلى مؤسسات رسمية تمثل دولة بأكملها، حتى ولو كانت التصريحات تحمل طابع “التريث” الذي تحدثت عنه وزارة الخارجية الأميركية. يشي هذا التوجه الأوروبي لإقامة علاقات مع طالبان – على اعتبارها “منتصرة بالحرب” حسبما جاء على لسان وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل – بحدوث تغير جذري في قواعد اللعبة التي وضعتها واشنطن أساساً بعد انسحابها دون أن تطبقها. ويزداد الواقع تعقيداً بالنسبة إلى الإدارة الأميركية نتيجة السباق ما بين الصين وروسيا وتركيا للحوار مع طالبان، شريطة قيام الحركة بالإعلان عن خطتها الجديدة والمناسبة في إدارة البلاد.
في الحقيقة لا تعني أحداث 11 سبتمبر، لأي دولة من الدول الفاعلة بالملف الأفغاني مثلما تعنيه لأميركا وللمواطن الأميركي، فهم الذين استُهدِفوا منذ 20 عاماً، وهم من دفع الكلف مادياً وعسكرياً وحتى سياسياً، وهم الذين قدموا أكثر من 2500 جندي في حرب تكاد نهايتها تكون أسوأ من بدايتها. إنَّ الانسحاب الأميركي من أفغانستان، أو من أي حرب أميركية في الخارج خاصة في الشرق الأوسط، هو مطلب شعبي أميركي بلا شك، لكن المنعطف الذي شهده هذا الانسحاب من أفغانستان، والطريقة التي عادت فيها طالبان للسيطرة، هي التي تضع بايدن وإدارته أمام أسئلة كبيرة من الصعب الإجابة عنها بالمعطيات والوثائق المكشوفة أمام الجميع، فالفشل واضح، ونتائجه جاءت أسرع من المتوقع، خاصة وأنه قبل إتمام عملية إجلاء القوات الأميركية كانت طالبان قد بسطت سيطرتها على كامل البلاد تقريباً.
في الذكرى العشرين لأحداث 11/9 سيقدم بايدن إجابات “باردة” في الغالب على ما سيطرحه الشعب الأميركي من أسئلة، فقد صرح بأنه “لا يثق بطالبان حتى الآن”، وأشار في مكان آخر إلى أن “الحركة تغيرت ولم يعد الأمن القومي الأميركي مهدداً في أفغانستان بالشكل الذي يتطلب وجوداً عسكرياً فيها” محاولاً تمرير رسائل مطمئنة للأميركيين ممن يرغبون بقراءتها. وقد بدأت مراكز التفكير وصناعة الرأي العام، بما فيها من سياسيين ومختصين وباحثين وإعلاميين، بمساعدته في ذلك من خلال إعادة توجيه الانتباه الشعبي العام نحو الخطر الروسي على أمن الولايات المتحدة القومي والخطر الصيني على أمنها الاقتصادي. وأعتقد هنا أن “ورقة” التبرير الأكثر فعالية التي تمتلكها الإدارة الأميركية أمام شعبها، هي أن “الانسحاب من أفغانستان هو هجوم على جبهة أخرى أكثر أهمية”.
تعول هذه “الورقة” في أهميتها كما يبدو على طبيعة النظرة للتطرف “الطالباني” المتجذر الذي لم يعالَج أساساً طيلة 20 عاماً، إن لم يزد الدخول الأميركي منه، وعلى الفوضى التي ستخلقها في الإقليم، لكن هذا سلاح ذو حدين، فإذا تطابقت تصرفات طالبان في المستقبل مع هذه النظرة فإن التهديدات ستكون كبيرة وقد نشهد 11/9 جديدا في أي بقعة من العالم. أما إذا كان رهان الولايات المتحدة خاطئاً فسوف تفقد هذه “الورقة” أهميتها، خاصة أن الأقنية الدبلوماسية الروسية والصينية تعمل بأقصى طاقاتها لإنشاء علاقات متوازنة مع طالبان. عندها لن يتوقف الأمر على الفشل الميداني القابل دائماً للإصلاح، أو على الأقل تدارك التداعيات الناجمة عنه، بل سيحدث فشل استراتيجي، وفي ملف كالملف الأفغاني ستكون له ارتباطاته الاقتصادية السياسية والأمنية، وسيكون مكلفاً جداً وصعب الإصلاح أمام التصعيد وتنامي الجبهات المستعرة اقتصادياً مع “التنين الصيني”، والمحتدمة أمنياً وسيبرانياً مع “الدب الروسي”، ليبقى فشل أو نجاح نتائج الانسحاب الأميركي “استراتيجياً” غير واضح المعالم حتى تتضح الطريقة التي ستحكم فيها “طالبان” البلاد.
وإذا كان الحكم على قرار الانسحاب بالفشل استراتيجياً ما زال مبكراً، فإن اختيار توقيت الانسحاب المتزامن مع الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر لم يكن موفقاً أبداً، وفي حال أريدَ منه أن يحمل رمزية معينة فإنه أخفق في ذلك تماماً، حيث زاد في الجرح الأميركي قطبة جديدة نتيجة ظهور الولايات المتحدة بمظهر من تخلى عن الشعب الأفغاني لصالح طالبان.
يقول بايدن متحدثاً عن السياسة الأميركية الجديدة “لقد طورنا القدرة على مكافحة الإرهاب عبر الآفاق التي ستسمح لنا بإبقاء أعيننا ثابتة على أي تهديدات مباشرة للولايات المتحدة في المنطقة، والتصرف بسرعة وحسم إذا لزم الأمر”. وهذا سيعني أن الولايات المتحدة ستضرب أي تهديدات مستقبلية من بعيد. لكن بايدن لم يفسر كيف أن انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان سيساعد في الواقع على تطبيق هذه السياسة، خاصة وأن طالبان ترى نفسها اليوم “منتصرة”، وبرأيها وبرأي مناصريها فقد كان صبرها وثباتها ومرونتها أقوى من جيوش العالم، ولن تتوانى بالطبع عن استخدام هذه الدعاية في تجنيد مؤيدين جدد، وترهيب المعارضين لها وتعزيز سلطتها.
قد تكون الإدارة الأميركية على وعي تام بما تفعله، وقد يكون لدى بايدن وفريقه “بجعات سوداء” وأوراقً لم تطرح على طاولة الضغوطات حتى الآن، وقد يحمل قرار الانسحاب نتائج إيجابية لأميركا على المدى الطويل، وقد يحسّن قدرتها في الحفاظ على أمنها، لكن كل هذا لا ينفي وصف هذا الانسحاب بأنه أحد أكثر الأفعال قسوة حتى في براغماتية السياسة، وأنه أظهر أنانية غير مسبوقة للدولة التي يقوم خطابها العالمي على الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان. وإذا كان العالم كله قد تعاطف مع الأميركيين في 2001/9/11، إلا أنهم اليوم –والأميركيون أولهم – غير متعاطفين مع قرار بايدن، وما زال من الصعب تخمين سبب قراره ربط التاريخين معاً!
حسن إسميك – كاتب ومفكر عربي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة