أين مصلحة روسيا من كلّ ذلك؟ ثمّة من يعتقد أنّ الأميركيين في عهد جو بايدن غير مهتمّين بالمنطقة وسيقبلون بأن تتسلّمها روسيا التي لم تتردّد يوما في أن تضع نفسها في خدمة إيران.
خلق واقع جديد على الأرض
لا يمكن الاستخفاف بما هو على المحكّ في جنوب سوريا حيث يتبيّن أن روسيا تدعم النظام الأقلّوي السوري مباشرة من جهة وتشجع إيران على تكثيف وجودها في تلك المنطقة من جهة أخرى. لماذا ترفض روسيا أخذ العلم بأنّ النظام السوري مرفوض من شعبه وأنّ لا مستقبل له؟ لا تفسير لمثل هذا الرفض الروسي على الرغم من مضيّ أكثر من عشر سنوات على اندلاع الثورة الشعبيّة على النظام القائم الذي يرفض أن يكون السوري أكثر من عبد لديه!
من الواضح أن روسيا ترفض أن تتعلّم من تجارب الاتحاد السوفياتي. لو كان للنظام السوري القائم منذ العام 1970 أيّ مستقبل من أيّ نوع، لكانت كلّ من بولندا وألمانيا الشرقيّة ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا (صارت دولتين هما تشيكيا وسلوفاكيا) وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا لا تزال بمثابة جرم يدور في الفلك السوفياتي، السعيد الذكر.
ما يطرحه الروس في ما يتعلّق بمستقبل الجنوب السوري يصبّ في خدمة مشروع يستهدف إحداث تغيير ديموغرافي دائم في تلك المنطقة السنّية – الدرزية الحيويّة التي لديها امتداد طبيعي مع الأردن وحتّى مع جنوب لبنان. إلى ذلك، فإنّ وجود الميليشيات الإيرانيّة على حدود الأردن يسهّل تهريب كل أنواع البضائع، بما في ذلك المخدرات إلى دول الخليج العربي!
يبدو الموقف الروسي من تلك المنطقة الحساسة غريبا إلى أبعد الحدود، خصوصا أنّه سبق لموسكو أن تعهدت بمنع إيران من إيجاد مواقع عسكريّة دائمة في الجنوب السوري في مقابل الحدّ من الهجمات الإسرائيلية على أهداف محدّدة في محيط دمشق.
ليس الموضوع موضوع حماية إسرائيل بمقدار ما أنّه مرتبط بخلق واقع جديد على الأرض لا يهدّد مستقبل سوريا، هذا إذا كان لها مستقبل فحسب، بل يهدّد الأردن ولبنان أيضا.
يطرح الموقف الروسي بالفعل أسئلة لا أجوبة عنها، أقلّه في المدى المنظور. من بين هذه الأسئلة ما مصلحة موسكو في حماية الوجود الإيراني في سوريا؟ تصعب الإجابة عن مثل هذا السؤال إلّا إذا كان مطروحا لعب موسكو لدور الوسيط بين إيران وإسرائيل من أجل تسهيل صفقة بين “الجمهوريّة الإسلاميّة” و”الشيطان الأصغر” يضمن بموجبه الطرف الإيراني خط وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل ولبنان وإسرائيل في مقابل اعتراف بأمر واقع مّا. يتمثّل الأمر الواقع هذا في أن يكون كلّ من لبنان وسوريا تحت السيطرة الإيرانية مع حفظ للمصالح الروسيّة في البلدين.
يمكن القول إن مثل هذه النظريّة المتعلّقة بحفظ إيران، عبر ميليشياتها، أمن إسرائيل على حدودها الشماليّة من نسج الخيال. لكن ليس ما يمنع التساؤل عن المنطق الروسي، وهو منطق أقرب من اللامنطق أكثر من أيّ شيء آخر. مثل هذا التساؤل أكثر من مشروع في ضوء الإصرار على تهجير قسم من أهالي درعا وإبقاء دروز السويداء والقرى المحيطة بها موضع ابتزاز دائم تحت تهديد داعش أو الميليشيات الإيرانيّة، لا فارق.
قد يكون التفسير الوحيد الذي تمكن الاستعانة به، من أجل فهم المنطق… أو اللامنطق الروسي الذي لا يأخذ في الاعتبار مصلحة الأردن، تاريخ علاقات موسكو بالمنطقة منذ خمسينات القرن الماضي. لم يتغيّر شيء بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. لا تزال روسيا تتصرّف بالطريقة ذاتها من منطلق وجود منافسة بينها وبين أميركا. من هذا المنطلق، ليس مهمّا ما يحل بهذه الدولة العربيّة أو تلك. المهمّ أن تستخدم روسيا المنطقة العربيّة بغية تأكيد أنّ لديها دورا تلعبه في مواجهة الأميركيين.
يبدو واضحا أنّ الكرملين يرى في إدارة جو بايدن إدارة ضعيفة وحائرة. يؤكّد ضعفها طريقة الانسحاب من أفغانستان. ويؤكّد حيرتها أيضا غياب أي مشروع أميركي بالنسبة إلى سوريا أو العراق. حسنا، ستستغل موسكو هذا الضعف وهذه الحيرة ولكن من أجل تحقيق أيّ هدف… غير هدف خدمة إيران؟
من يعود بالذاكرة بضعة عقود إلى خلف، يكتشف أنّ روسيا، وقبلها الاتحاد السوفياتي، لم يقدما يوما على عمل بناء في المنطقة العربيّة كلّها، اللهمّ إلّا إذا وضعنا السدّ العالي جانبا. تظلّ سوريا المثال الأبرز على الفشل الروسي والسوفياتي. شجعت موسكو في كلّ وقت على استمرار حال اللاحرب واللاسلم التي اتبعها حافظ الأسد منذ خسارته الجولان في العام 1967.
من الألغاز التي لا تزال ألغازا أنّ موسكو لم تحذر جمال عبدالناصر من دخول مغامرة حرب 1967 التي جرّه إليها النظام البعثي المزايد في سوريا.
الأكيد أن موسكو كانت على علم تام بنتائج تلك الحرب قبل اندلاعها، لكنها لم تقم بأيّ عمل مفيد من أجل الحؤول دونها. كان رهانها الدائم على أنّ العربي الضعيف سيكون أكثر حاجة إليها من العربي القويّ. في النهاية، لو اتكل أنور السادات على نصائح الاتحاد السوفياتي، لكانت سيناء بنفطها وغازها ومناطقها السياحيّة، مثلها مثل الجولان والقدس الشرقيّة والضفّة الغربيّة، تحت الاحتلال الإسرائيلي إلى اليوم.
تعرف روسيا قبل غيرها أنّ الشعب السوري يرفض بأكثريته الساحقة النظام القائم. كذلك، تعرف أن إيران لا ترى لنفسها مستقبلا في سوريا من دون تغيير ديموغرافي في العمق يشتّت السنّة ويهجّرهم إلى خارج سوريا وإلى مناطق معيّنة في الشمال السوري حيث الهيمنة التركيّة. ما ليس معروفا هو لماذا الاستمرار في هذه السياسة التي لن تجلب سوى المزيد من الخراب الذي سيلحق أيضا بدروز سوريا وليس بالسنّة وحدهم في منطقة حوران ودرعا البلد على وجه التحديد.
إلى أين ستأخذ روسيا سوريا؟ ستأخذها إلى المزيد من التفتت لا أكثر وإلى وضع يشكل تهديدا للبنان والأردن في الوقت ذاته. أين مصلحة روسيا من كلّ ذلك؟ ثمّة من يعتقد أنّ الأميركيين في عهد جو بايدن غير مهتمّين بالمنطقة وسيقبلون بأن تتسلّمها روسيا التي لم تتردّد يوما في أن تضع نفسها في خدمة إيران. تبدو مثل هذه المعادلة الطريق الأقصر إلى المزيد من التدهور والضياع في منطقة تحتاج إلى حدّ أدنى من الاستقرار أكثر من أيّ وقت!
خيرالله خيرالله – إعلامي لبناني – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة