لطالما تحركت قوى لوبي الإخوان والنظام الإيراني للضغط في الولايات المتحدة من أجل إخراج الأميركيين من تلك البلاد.
وإذ تهدر آليات وعناصر ميليشيات “طالبان” عبر مدن وبلدات أفغانستان وتدخل كابول، ويهرب عشرات آلاف المدنيين من أمامها بعد انسحاب الجيش الأفغاني أمام جحافل الغزو، ويدب الذعر في قلوب النساء والشباب المتحرر، والأقليات الإثنية والدينية، يعلو السؤال الأكبر والمدوي: كيف يمكن أن تقبل أميركا باجتياح “طالبان” للبلاد بعد 20 عاماً على تحريرها منهم؟ هل يمكن أن يقبل الشعب الأميركي بالتخلي عن حلفاء ورفاق نضال لصالح “قوى إرهابية”؟
الشعب والنخبة
كما في دول عدة، بما فيها الديمقراطيات الليبرالية، مشاعر المواطنين مهمة وتؤثر في القرارات الحكومية، بخاصة في مجالات الأمن القومي والدفاع. لذا نرى صراعات مجموعات الضغط والتأثير (اللوبيات)، من الجامعات إلى المراكز الدينية، وعالم الفن، فالصحافة، والسوشيال ميديا، يتواجهون في معارك علنية وديبلوماسية، لدفع السلطات التنفيذية في اتجاه أو آخر. إلا أن اللاعب الأكبر في النهاية يبقى النخبة المتحكمة بالخطاب السياسي والثقافة والإعلام والقرارات السياسية. من هنا يتم فهم سر عدم صدور رد فعل من الرأي العام الأميركي على قضايا تبدو خطرة للعالم الخارجي، ولكنها مبسّطة لأكثرية الأميركيين. والجواب هو أن النخبة تبسّط القضايا كثيراً، فتحدّ فهم الناس العاديين في الولايات المتحدة، وتضعهم في موقع الارتهان لما تقوله الصحافة والأكاديميا أو لا تقوله.
أفغانستان في الفهم الشعبي
تحتل أفغانستان مكانة خاصة لدى الشعور الجماعي الأميركي. فالهجوم الدموي على نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، دبره تنظيم “القاعدة” من تلك الدولة، بحماية حركة “طالبان”. وإسقاط نظام الحركة وضرب “القاعدة” كانا بمثابة مهمة مقدسة في ذهن الأميركيين، لسنوات عدة. إلا أن الإدارات المتتالية لم تبنِ عقيدة استراتيجية لشرح ما هو الهدف النهائي في أفغانستان، وهو بنظرنا ونظر خبراء ومشرعين كثر، إجراء تغيير اجتماعي يعبئ المجتمع الأفغاني ضد التطرف ويقتلعه من الجذور عبر إصلاحات كتلك التي تجرى في دول عدة في الخليج العربي. النخبة الأميركية، المتفاعلة مع الإسلامويين لأسباب عدة سنأتي عليها في مقالات مستقبلية، ركزت على أهداف محدودة غير جذرية، وطبّلت لعودة القوات إلى الأراضي الأميركية، من هنا بات الشعار الجماعي للأميركيين “قتل بن لادن وإعادة الجنود إلى بيوتهم”. وكأن الحركة التكفيرية الإرهابية لا يمكن أن تنتج “بن لادن آخر”!
ضف إلى ذلك الانقسام التاريخي في أميركا بين الانعزاليين Isolationists الذين يرفضون التدخل الخارجي في أي بقعة من العالم ومَن يؤمن “برسالة أميركا العالمية” Ideaslists.
الهدف في أفغانستان
لقد تعاطيت مع أصحاب القرار والرأي في واشنطن لـ20 عاماً منذ 11 سبتمبر 2001، والخلاصة الأساسية التي وصلتُ إليها هي أنه لم تكن لدى أميركا صورة واضحة، جلية، مركزة، لما يجب فعله في أفغانستان، بعد إسقاط “طالبان”. تحت إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش أراد المحافظون الجدد NeoCons أن “ينشروا الديمقراطية” (الأميركية) المعروفة بالجفرسونية Jeffersonian، أي عملياً اعتماد الدستور الأميركي. ولكن تلك الجهود المثالية وغير الواقعية، لم تصل إلى نتيجة من دون مجتمع تقوده قوى ليبرالية. الانعزاليون أرادوا الانسحاب من دون شروط ولا اتفاق مع أي طرف، لا الحكومة ولا “طالبان”. وبشكل عام، لا الجمهوريون ولا الديمقراطيون كان لهم هدف نهائي واضح بالنسبة لأفغانستان. أما الجيش والاستخبارات فهدفهم منع أي هجوم ينطلق من أفغانستان باتجاه الأراضي الأميركية. وفي خضم هكذا “أدغال سياسية”، استفادت قوتان من الثغرات الأميركية.
اللوبيان يخترقان
منذ دخول القوات الأميركية والأطلسية (الناتو) إلى أفغانستان في خريف عام 2001، تحركت قوى لوبي الإخوان المسلمين والنظام الإيراني للضغط في واشنطن من أجل هدف استراتيجي واحد، ألا وهو إخراج الأميركيين من تلك البلاد، بطريقة أو بأخرى، وكل لغايته الخاصة. طهران أرادت سحب قوات الناتو من خاصرتها الشرقية، لتتفرغ ضد العرب على جبهتها الغربية. أما المحور الإخواني بأنظمته وجماعاته أراد إعادة “طالبان” إلى أفغانستان وإقامة “الإمارة الإسلامية” ولكن بقيادة ومشروع إخواني.
وعمل الثنائي من دون هوادة لعقدين على إضعاف الوجود الأطلسي والمشروع الأميركي في أفغانستان، قبل أن تتصلب وتنمو القوى المدنية في هذه الدولة الآسيوية المسلمة. ومن أهم ما قام به محور اللوبيين (الإيراني والإخواني) هو تهديم فكرة أفغانستان تعددية، تمثيلية، مدنية، معتدلة، لدى الرأي العام الأميركي، وضرب مشروع بوش، ودعم مقاربات باراك أوباما، استيعاب تحركات دونالد ترمب، ودفع بايدن ليخرج القوات الأميركية ويتخلى عن الحكومة في كابول.
يتعجب الكثيرون كيف حكمت الولايات المتحدة أفغانستان لسنوات طويلة ولم تنجح بإنتاج تغيير اجتماعي يواجه عودة التكفيريين وكبح جماح الإسلامويين. الجواب بسيط، إن اللوبيات الإخوانية والإيرانية تمكنت من قصف أساسات البنية الأميركية الفكرية، الأكاديمية، والإعلامية التي كان بقدرتها أن تبني الدعم الشعبي لحركة مواجِهة للماكينة الإسلاموية في المنطقة. وأدى ذلك إلى فراغ في التعاطي مع أفغانستان. فكل ما قامت به أميركا هناك لعشرين سنة، كان المحافظة على ستاتيكو عسكري، أي تجميد وليس تفكيك الآلة الطالبانية. بينما اللوبيات تتغلغل داخل المؤسسات صاحبة القرار حتى وصلت إلى نقطة تمكنت فيها من دفع بايدن لسحب القوات، وإعطاء الضوء الأخضر للديوباندية القتالية لتعيد اجتياح البلاد.
إدارة بوش كما أشرنا كانت الأقرب إلى إحداث تغيير في أفغانستان لصالح الاعتدال، وكان المحافظون الجدد، ومعهم شريحة من ليبراليي الوسط كالسيناتور جو ليبرمان، يركزون على حرب أفكار وتعبئة الكوادر الليبرالية الأفغانية، النادرة وقتها. إلا أن اللوبيات كانت قد اخترقت البيروقراطيات، فأعاقت محاولات بوش لكسر عقيدة التكفيريين. كما أن قوى الاعتدال والإصلاح العربي لم تكن بعد جاهزة أو في السلطة. فخرج بوش ودخل أوباما مع حلفائه الإخوانيين ومؤيدي الاتفاق مع إيران. فألغت إدارة أوباما برامج التغيير في أفغانستان، وأطلقت العنان للإخوان وأنصار الاتفاق النووي ليخربوا على مشروع بوش المقاوم للمتطرفين في المنطقة وأفغانستان. فلم يبقَ لصورة أفغانستان إلا العلاقة العاطفية للرأي العام الأميركي مع الساحة التي قُتل وجُرح فيها الآف الأميركيين. وانحسر الكلام عن الأيديولوجية التكفيرية (أو الجهادية في الغرب). ثماني سنوات نزعت قدسية مواجهة المتطرفين وأيديولوجيتهم الدموية. وأمست أفغانستان مكاناً جغرافياً تتواجد فيه القوات الأميركية من دون أن توضح أسباب ذلك للناس.
عندما أتى ترمب عرف عنه أنه سيبطش بالإرهابيين، وهكذا فعل، ولكن من دون خطة استراتيجية شاملة بالنسبة لأفغانستان. وكانت قاعدته تتعرض لتأثيران، يا للمفارقة، تأثير من القوميين الانعزاليين المطالبين بإعادة القوات الأميركية إلى أراضي الوطن، وتأثير آخر يطالب بضرب الإرهابيين أينما كانوا. وكانت بيروقراطية أوباما المعارِضة لأجندة بوش التغييرية في أفغانستان استمرت في عهد ترمب، بسبب قلة معرفة مستشاريه بالحرب الفكرية. فحصلت المفارقة الثانية بتعيين ترمب لفريق مفاوض قريب من الإخوان للتباحث في الدوحة. ولكن ترمب أراد “طالبان” منزوعة السلاح لتتحاور مع كابول.
من جهته، ارتكز بايدن على “اتفاق السلام” مع “طالبان” في الدوحة، معللاً ذلك بأنه موقَّع عليه من إدارة سابقة، لكن إدارته فاوضت عرابي “طالبان” في قطر على تنفيذٍ مختلف، أي ألا يتم نزع سلاح الحركة، وأن يُسمح لها أن تتحرك على الأرض، وألا يُضرب تقدمها من الجو، وأن يُسكَت عنها عندما تسيطر على المدن والدولة. وقد يقضي الاتفاق المعدل أن يتم الاعتراف بـ”طالبان” عندما ستقيم نظامها “الإسلاموي”.
تنهمر التفسيرات والأقاويل والاجتهادات ونظريات المؤامرة والحماقات أحياناً، في الإجابات على هكذا سؤال خطير. والجواب التحليلي واضح ومعروف لدى العارفين بأحوال واشنطن. طبعاً هناك مسببات ونتائج لهذا الواقع السياسي الجديد. هذا الخيار للشراكة مع “طالبان” هو خيار اتخذته إدارة أوباما بالشراكة مع الإخوان المسلمين ومَن يختاره هؤلاء في المنطقة. وكما حدث خلال “الربيع العربي” عندما دعمت تلك الإدارة المحاور الإخوانية في المنطقة، وفي العلن، أبرمت إدارة بايدن، على ما يبدو، شراكة مع الإخوان وقطر في أفغانستان.
فوعد “اتفاق الدوحة” غير العلني بـأن تدير القيادة الإخوانية المشروع السياسي وتضبط إيقاعه، بشكل مختلف عن “طالبان” 1996، وفي المقابل التزمت واشنطن بالسماح بسقوط الحكومة الوطنية، والتنسيق مع العدو القديم في عملية الإخراج. وما مصلحة بايدن في ذلك؟ إن نفس الحلقات التي أيدت الاتفاق النووي الإيراني، لتستفيد بمشاريع الأعمال Business قد تكون هي أيضاً وراء الضغط لدعم سياسة كهذه. ضف إلى ذلك أن إيران يهمها إخراج القوات الأميركية من أفغانستان، بالتالي أضاف اللوبي الإيراني قوة على ضغط اللوبي الإخواني، متحججاً بأن الانسحاب سيعزز الاتفاق النووي. وهكذا حصل… وللحديث صلة…
وليد فارس – الأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية – اندبندنت عربية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة