جو بايدن اتخذ قرارا شجاعا عندما قرّر الانسحاب من أفغانستان بعد عشرين عاما على غزوتي نيويورك وواشنطن. يعرف الرئيس الأميركي أنّه لا يمكن لبلاده أن تربح الحرب وأن قرارا بالانسحاب سيتخذ في يوم من الأيّام.
معركة كبيرة بدأت
لم يعد مستقبل أفغانستان معروفا بغض النظر عن التصريحات المتفائلة للرئيس جو بايدن. ستتمكن حركة “طالبان” عاجلا أم آجلا من وضع يدها على كلّ أفغانستان. ستكتفي في المستقبل المنظور بمحاصرة كابل في انتظار سقوطها على نحو تدريجي.
ثمّة عودة إلى ما قبل 11 أيلول – سبتمبر 2001 عندما نفّذ تنظيم “القاعدة” الذي كان زعيمه أسامة بن لادن يقيم في أفغانستان، بحماية “طالبان”، غزوتي نيويورك وواشنطن.
استطاعت القوات الأميركية، في ضوء رفض زعيم “طالبان”، وقتذاك، الملا عمر تسليم أسامة بن لادن إخراج “طالبان” من كابل ومناطق أفغانية أخرى. لكنّ تلك الحركة الظلاميّة التي اخترعتها، أو على الأصح ارتكبتها، الأجهزة الأمنيّة الباكستانيّة بقيت منتشرة في الأرياف. تزحف “طالبان” حاليا انطلاقا من الأرياف في اتجاه المدن الكبرى، بما في ذلك العاصمة. ليس أكيدا أن “طالبان” باتت تسيطر على ما يزيد على 85 في المئة من الأراضي الأفغانيّة. ما هو أكيد أن القسم الأكبر من أفغانستان صار تحت سلطتها.
في محاولة لرفع معنويات الجنود الأميركيين، يتحدّث بايدن عن انتصار في أفغانستان. نعم، حققت القوات الأميركيّة انتصارا عسكريا في أفغانستان. كان انتصارا مؤقتا. لكنها فشلت سياسيا. لم تستطع الولايات المتحدة إقامة نظام سياسي قابل للحياة بعد إخراج “طالبان” من كابل.
هناك مخاوف حقيقية من عودة أفغانستان مأوى للتنظيمات الإرهابيّة من نوع “القاعدة” وما شابهها، وهي حركات ولدت من رحم تنظيم الإخوان المسلمين الذي انتمى إليه أسامة بن لادن في شبابه قبل أن ينشئ تنظيما إرهابيّا خاصا به يتوافق مع تطوّر فكره الإرهابي. تفوّق أسامة بن لادن، عبر “القاعدة”، على كلّ التنظيمات الإرهابيّة الأخرى التي أنتجها العالم، بما في ذلك حركة “طالبان” نفسها التي مارست إرهابها على الأفغان وعلى المرأة الأفغانيّة على وجه التحديد.
أسئلة كثيرة ستطرح نفسها بعد إتمام الانسحاب الأميركي من أفغانستان. لا شكّ أن هذا الانسحاب سيترك فراغا. هل تستطيع حركة “طالبان” ملء هذا الفراغ أم ستتحوّل أفغانستان إلى أرض مفتوحة لصراعات ذات طابع إقليمي؟ هناك دول عدّة تتأثّر بما يدور في أفغانستان. في مقدّم هذه الدول باكستان والهند وإيران وتركيا وروسيا والصين. لكلّ من هذه الدول حساباتها التي ستجعل الوضع الأفغاني أكثر تعقيدا في المستقبل، خصوصا في ظلّ كلام كثير عن تمكّن إيران من إيجاد تحالفات جديدة في الداخل الأفغاني… وعن طموحات تركيّة إلى دور على الأرض يشمل إرسال قوّات لتأمين مطار كابل.
ربّما قرّرت أميركا أن تكون أفغانستان “ساحة” تتنافس فيها هذه الدول بدل أن تكون همّا خاصا بها بعدما عجزت عن إقامة نظام بديل من نظام “طالبان”. في النهاية، اتخذ جو بايدن قرارا شجاعا عندما قرّر الانسحاب عسكريا من أفغانستان بعد عشرين عاما على غزوتي نيويورك وواشنطن. يعرف الرئيس الأميركي أنّه لا يمكن لبلاده أن تربح الحرب الأفغانية وأن قرارا بالانسحاب العسكري سيتخذ في يوم من الأيّام. رفض ترك هذا القرار لغيره، خصوصا أن الوجود العسكري الأميركي بات مكلفا جدّا.
على هامش الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان، لا يزال السؤال الأساسي يطرح نفسه: لماذا قرّرت إدارة جورج بوش الابن اجتياح العراق في وقت كانت الحرب في أفغانستان لا تزال دائرة؟
سيبقى هذا السؤال في الواجهة لسبب في غاية البساطة. يعود السبب إلى أن إدارة بوش الابن تذرّعت بغزوتي نيويورك وواشنطن لتبرير اجتياح العراق، علما أنّه لم يكن هناك أيّ رابط بين النظام العراقي من جهة وأسامة بن لادن و“القاعدة” من جهة أخرى.
لا تستطيع أميركا، بكل جبروتها خوض حربين كبيرتين دفعة واحدة. انتهى الأمر بتسليم العراق على صحن من فضّة إلى إيران التي كانت شريكا في الحرب من أجل إسقاط نظام صدّام حسين.
الفشل الأميركي في أفغانستان والعراق واحد. إنّه فشل سياسي. في أساس هذا الفشل العجز عن إقامة نظام جديد قابل للحياة في أيّ من البلدين، على الرغم من تحقيق انتصار عسكري في كليهما. تدفع إدارة بايدن حاليا ثمن هذا الفشل المزدوج الذي لا تبرير له سوى أنّ مسؤولين في إدارة بوش الابن دفعوا في اتجاه الحرب على العراق. لماذا فعلوا ذلك؟ هذا لغز وليس سؤالا.
كلّ ما هو معروف إلى الآن أن كبار المسؤولين الأميركيين التقوا في منتجع كامب ديفيد مباشرة بعد غزوتي نيويورك وواشنطن وعقدوا اجتماعا برئاسة بوش الابن. في هذا الاجتماع، طرح بول ولفويتز، نائب وزير الدفاع فكرة الردّ على ما قام به أسامة بن لادن وتنظيمه في العراق وليس في أفغانستان. ردّ عليه وزير الخارجية كولن باول، وقتذاك، مؤكّدا غياب أيّ رابط بين “القاعدة” من جهة والعراق ونظام صدّام حسين من جهة أخرى. انتهى الأمر عند هذا الحد. لكن الذي حصل بعد الاجتماع أن صحافيين سألوا ولفويتز لماذا طرح موضوع العراق؟ أجاب إنّه “زرع بذور” الحرب على العراق. لماذا العراق، علما أن النظام فيه كان تحت الحصار وأنّ الولايات المتحدة استطاعت تحويل صدّام حسين إلى ما يشبه جثّة، من الناحية السياسية؟
ستمرّ سنوات قبل الوصول إلى معرفة خبايا هذا اللغز. في انتظار ذلك، ليس ما يشير إلى أن موضوع أفغانستان سيحلّ قريبا بـ”طالبان” ومن دون “طالبان”. هناك معركة كبيرة بدأت. سيتوضح في نتيجتها من سيكون صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في بلد سيستحيل في كلّ وقت السيطرة عليه كلّه. الأمر الوحيد الأكيد أن “طالبان” ستجعل من المواطن الأفغاني إنسانا بائسا يعيش في ظلّ نظام لا قيمة فيه للإنسان وللمرأة تحديدا! الأمر الأكيد الآخر أن الولايات المتحدة لم تستطع البناء على انتصارين عسكريين في أفغانستان والعراق. فشلت في ذلك بسبب حسابات لم يتحدّد بعد من يقف وراءها. في أساس هذه الحسابات خلق عذر لاجتياح العراق وتغيير كلّ التوازنات في الشرق الأوسط والخليج. منذ اجتياح العراق وتسليمه إلى إيران، لا يزال الشرق الأوسط في حال مخاض يصعب التكهّن بما سيسفر عنه.
خيرالله خيرالله – إعلامي لبناني – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة