طاقم وزارة الخارجية التركية يحاول إصلاح ما يفسده أردوغان بخطاباته العدوانية، ولكن لا يمكن لأي دولة الوثوق بالتوجه التركي الداعي للتهدئة بينما ينسف أردوغان تلك المحاولة بعد أيام وأحيانا ساعات.
عنتريات أردوغان الخطابية.. عفا عليها الزمن
الخطابات النارية تجذب الانتباه، والمزيد من الشعبوية يلهب المشاعر، والحديث بنفس ديني يحرّك الشارع، وإضافة بعض من الشعارات القومية إليها تجعل الجماهير تلتف حولك.
هذه باختصار، وصفة القيادة عند الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فلا مشكلة أن ينهار الاقتصاد وتصبح البلاد معزولة طالما أن الزعيم التركي يشعر بحرية التعبير ويقدم الخطابات وفق تلك الوصفة السحرية.
أزمات الآخرين فرص عند سلطان العثمانية الجديدة، فكلما تزايدت الأزمات كلما تمكن أردوغان من رفع سقف الخطابات.
التضامن مع غزة لا يكلّف شيئا، دع الفلسطينيين ينزفون والإسرائيليين يقصفون بينما أردوغان يهاجم الدول الكبرى بالكلام دون أفعال.
فأردوغان المعزول والذي يشعر بتجاهل الدول له لا يملك ليغطي على ذلك سوى الخطابات العدوانية والهجومية. أراد الرئيس الأميركي جو بايدن تأديب أردوغان عبر التجاهل بينما أراد أردوغان الرد للفت الانتباه بالهجوم الخطابي “يدا بايدن ملطختان بالدماء”.
هجومية أردوغان على بايدن، الذي لم يتصل به إلا بعد أكثر من ثلاثة أشهر من الوصول للحكم، هي محاولة العاجز الذي لا يملك في السياسة وسيلة للرد، فيخرج على جمهوره ويفرغ ما في داخله من غضب.
هل يعتقد أردوغان بعد خطاباته الرنانة أنه سيلتقي بايدن بأذرع مفتوحة، على هامش قمة الناتو في يونيو، وسيحقق المكاسب السياسية لتركيا لأن الإدارة الأميركية سترتعد خوفا من خطاباته العدوانية!
لماذا لا يتعلم أردوغان من تجاربه مع الأوروبيين الذين يبتعدون عن تركيا نتيجة عوامل كثيرة سببها أردوغان بما فيها خطاباته التهديدية والابتزازية عندما استخدم اللاجئين سلاحا للضغط على الاتحاد الأوروبي، فكانت النتيجة عزلة أوروبية مع عقوبات وتراجع للاستثمارات.
يبدو قِصر النظر في السياسة يطال مختلف أطياف الإسلاميين، فبينما يشعر أردوغان بذل التجاهل، يشعر مؤيدوه من الإسلاميين وخصوصا الإخوان المسلمين أنه انتصار عظيم أن يقوم زعيم مسلم بهذا الهجوم على رئيس أقوى دولة في العالم.
هل يعتقد أردوغان بعد خطاباته الرنانة أنه سيلتقي بايدن بأذرع مفتوحة، على هامش قمة الناتو في يونيو، وسيحقق المكاسب السياسية لتركيا لأن الإدارة الأميركية سترتعد خوفا من خطاباته العدوانية!
الكثير من البسطاء سحرتهم لغة أردوغان الهجومية لجهلهم بأن كل ما يفعله أردوغان محاولة استعراضية للرد على التوجه الغربي تجاهه.
هذا الأسلوب الاستعراضي لن يخدم تركيا ولا حتى القضية الفلسطينية، بل هو على حساب الفلسطينيين لكسب مشاعر الجمهور واستقطاب الشارع التركي بشقه المحافظ وتهيئته للانتخابات المقبلة التي يعلم أردوغان أنه يواجه فيها تحديا خطيرا نتيجة فشل مشاريعه الخارجية وسوء إدارة اقتصاده.
تركيا كدولة ستخسر أكثر وأكثر، فكلما تكلم أردوغان واستعرض عضلاته خسر المزيد من الأصدقاء. خطابات أردوغان ترتقي لما يمكن تسميته “سياسة صفر أصدقاء” بعد أن كانت سياسة تركيا قبل تضخم أردوغان خطابيا “سياسة صفر أعداء”.
يعلم المراقبون للمشهد التركي أن طاقم وزارة الخارجية التركية يحاول إصلاح ما يفسده أردوغان بخطاباته العدوانية، ولكن لا يمكن لأي دولة الوثوق بالتوجه التركي الداعي للتهدئة بينما ينسف أردوغان تلك المحاولة بعد أيام وأحيانا ساعات.
ومشكلة تركيا لا تقتصر على الحالة النفسية لأردوغان المنعكسة خطابيا، بل أيضا حليفه القومي المتشدد دولت بهجلي رئيس حزب الحركة القومية الذي يسير في نفس المزاج السياسي لأردوغان تجاه الدول الكبرى.
فعندما يدعو بهجلي إلى طرد القوات الأميركية وإغلاق قاعدة إنجرليك فإنه يذهب في دعوته حيث يرغب أردوغان بقوله، ولكن ليس على لسانه.
أصبحت كثرة الخطابات التركية في عهد أردوغان عبارة عن مزيج من التناقضات المبنية على آنية التفكير دون رؤى بعيدة المدى.
الكثير من الأتراك باتوا يعرفون أن عنتريات أردوغان الخطابية لا تطعمهم ولا تشربهم، بل يدفعون ثمنها من جيوبهم. بينما في العالم العربي لا يزال بعض الجمهور يعيش ولع الزعيم الذي لا يقهر في مواجهة الدول الكبرى، حتى لو كان ذلك بالكلام فقط.
لن يستغرب أحد أن يسمع في آخر أيام أردوغان السياسية وانهيار حكومته أنه لا يزال يخطب في الجمهور عن مدى نجاحاته الاقتصادية والسياسية وكيف حوّل تركيا إلى دولة كبرى تتحدى الدول العظمى.
لقد عفا الزمن على فن القيادة بالخطابة إلا عند الزعيم أردوغان.
غسان إبراهيم – إعلامي سوري – العرب اللندنية