أوغاريت بوست (مركز الأخبار) – اعتبرت أوساط خبيرة في الاقتصاد، أن الحكومة السورية هي المسؤولة عن تدهور الاقتصاد والليرة السورية، بغض النظر عما تسوقه هي من مبررات وحجج في أغلبها واهية وتدعو إلى “السخرية”.
وأشارت تلك الأوساط إلى أن الحكومة السورية منذ عقود لا تتعامل مع اقتصاد البلد من منطلق علمي، إنما تتعامل معه كحالة راهنة من منطلق مصلحي نفعي يخدم النظام وبيئته السياسية والمجتمعية.
وتخطى سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار خلال اليومين الماضيين، الـ3700 ليرة لأول مرة في تاريخها، ما أدى لقفزات كبيرة في أسعار السلع والمواد والخدمات، في ظل مخاوف كبيرة لدى السوريين من فترات أصعب وانهيارات أكبر في ظل عدم قدرة الحكومة السورية مواجهة هذه الأزمة الصعبة.
وحول الأسباب التي أدت لسقوط الليرة، وهل لدى الحكومة السورية أي حلول لمواجهة الانهيار الاقتصادي، وما ستشكله العقوبات الأمريكية الجديدة في حال فرضها على البلاد، تواصلت شبكة “أوغاريت بوست” الإخبارية مع الأكاديمي والخبير الاقتصادي الدكتور مهيب صالحة.
وفيما يلي النص الكامل للحوار الذي أجرته “أوغاريت بوست” مع الأكاديمي والخبير في الاقتصاد الدكتور مهيب صالحة:
– ماهي الأسباب التي أدت إلى السقوط المتسارع لليرة السورية خلال العام الماضي والحالي مقارنة بالأعوام السابقة ؟
تتصدر الليرة عناوين المرحلة الحالية من المسألة السورية التي بدأت منذ منتصف العام الفائت بتوقف البنك المركزي عن التدخل المباشر وغير المباشر في دعم استقرار سعر صرفها والتوجه إلى تعويمها في سوق الصرف. وكان نقل القرار الاقتصادي من رامي مخلوف ابن خال الرئيس السوري إلى حرمه أسماء الأخرس المؤشر الرئيس إلى هذا الخيار لأن الإدارة السابقة كان من مصلحتها وهي التي تمسك بأكثر من 60% من الاقتصاد السوري المحافظة على استقرار سعر صرف الليرة لأنها كانت تستحوذ على سوق الصرف وعلى معظم مزادات البنك المركزي للدولار بالسعر الذي لا يتجاوز 500 ليرة للدولار، إلا في حالات وفترات محدودة جداً , بينما الإدارة الجديدة , وهي بحاجة لإعادة بناء احتياطي البنك المركزي من العملات الأجنبية لإعادة تدويره في سياق إعادة إنتاج السلطة ومركزية القرار الاقتصادي والسياسي تبنت سياسة تعدد أسعار الصرف التي تتراوح ما بين الرسمي 438 ليرة للدولار والترجيحي 700 ليرة ثم 1256 وسعر البدلات 2525 ليرة وسعر السوق المنفلت من عقاله, وذلك للاستحواذ على الفروقات الكبيرة بين أسعار الصرف، لا ننسى ان هذه السياسة قديمة جديدة تم ممارستها في منتصف ثمانينيات القرن الماضي على أثر خلو البنك المركزي من أي احتياطي بالعملات الأجنبية، ومما أدى أيضاً إلى تدهور سعر صرف الليرة السورية تدريجياً من حوالي 4 ليرات للدولار حتى بلغ 50 ليرة للدولار.
وفي هذا السياق تواترت عدة متغيرات جعلت الليرة تتأرجح صعوداً وهبوطاً خلال الأشهر الماضية، مما انعكس سلباً على الاقتصاد السوري وإمكاناته الإنتاجية, وعلى السوق السورية من حيث ندرة السلع المحلية والمستوردة وارتفاع أسعارها بشكل جنوني.
حجز الأموال السورية في البنوك اللبنانية وقانون سيزر وجائحة كورونا وتوقف الخط الائتماني الإيراني والصراع الروسي الإيراني للاستحواذ على الموارد الطبيعية السورية واستمرار العمليات العسكرية في شمال غرب سوريا وصمت العالم المريب حيال المسألة السورية ووضعها على الرف مؤقتاً.
وفي السياق ذاته تأتي الموجة الأخيرة من تدهور سعر صرف الليرة الذي تجاوز حائط 3700 ليرة للدولار في أعلى مستوى له منذ مطلع العام الحالي، ويؤدي إلى الإطاحة بقوتها الليرة الشرائية دونما أية استجابة إيجابية لا من الإدارة الاقتصادية الجديدة ولا من الحكومة أو بنكها المركزي، سواء لتفسير حالة التدهور أو اتخاذ إجراءات إسعافية من أجل كبحها وطمأنة السوق وبث جرعة أمل لدى المواطنين الذين فقدوا ثقتهم بقدرة هذه السلطة على وقف حالة التدهور وهي أصلاً من افتعلها، ومسؤولة عنها بغض النظر عما تسوقه هي من مبررات وحجج في أغلبها واهية وتدعو إلى السخرية.
– هل تستطيع الحكومة السورية تقديم حلول إسعافية خلال الفترة القادمة لمنع مزيد من الانهيار المتسارع لليرة ؟
مما لا شك فيه أن الحكومة, أي حكومة, هي المسؤول الأول والأخير عن الحالة الاقتصادية في بلدها, والحكومة السورية منذ عقود لا تتعامل مع اقتصاد البلد من منطلق علمي وله توازنات وحسابات وأهداف مجتمعية عامة، إنما تتعامل معه كحالة راهنة من منطلق مصلحي نفعي يخدم النظام وبيئته السياسية والمجتمعية, لذلك لم تتخذ إلى الآن أية إجراءات لوقف تدهور الليرة وتآكل واهتراء الاقتصاد الوطني, وعلى عكس ذلك كل ما تقوم به منذ بداية الأزمة الاقتصادية, وهي نتيجة منطقية وطبيعية للأزمة السياسية والأخلاقية في البلد, يؤدي إلى استمرار نزيف الاقتصاد الوطني ومركزة الثروة والدخل وهدر الإمكانات والطاقات والوطنية، وإضعاف الطلب الداخلي الفعال على الإنتاج المحلي والمستورد وإغراق السوق المحلية بالسلع الكمالية المستوردة, في الوقت الذي كان عليها إعلان اقتصاد الحرب منذ اندلاعها لإعادة توزيع خياراتها ومواردها الاقتصادية للمحافظة على القدرات الإنتاجية والاستهلاكية لعامة الناس الذين بسبب سياسات الحكومة صار أكثر من 90% منهم تحت خط الفقر والعوز الغذائي .
إن أية حكومة انطلاقاً من مسؤولياتها القانونية والسياسية والأخلاقية مطالبة بتبني سياسات اقتصادية مالية ونقدية, لإنقاذ اقتصاد بلدها من التدهور، سواء في حالة الحرب أو حالة السلم, وإذا كانت عاجزة أو لا ترغب لدواعي خاصة فعليها الرحيل لأن وجودها عندئذٍ تكلفة وطنية بلا عائد, ووجودها كما عدمه لا فائدة منه.
من بين الإجراءات الإسعافية التي يمكن اتخاذها: رفع سعر الفائدة على الودائع بالليرات السورية وقبول الودائع بالعملات الأجنبية بأسعار فائدة مقبولة, ومنح الائتمان بكافة أنواعه للمشاريع الإنتاجية والإنفاق الاستهلاكي ودعم السلع الاستهلاكية الأساسية وإيصالها إلى مستحقيها من أجل تقوية الطلب الفعال لغالبية الشعب السوري, وتأمين مستلزمات الإنتاج الصناعي والزراعي.
والبدء في التفكير بمصادر الطاقة البديلة, ومكافحة الفساد الإداري والمالي وبخاصة فساد السياسات وفساد أصحاب الأمر والمتنفذين والفساد الكبير ومصادرة أموال الفساد, ومكافحة التهرب الضريبي وشتى ممارسات اقتصاد الظل من تهريب وتجارة ممنوعة للسلع وتجارة المخدرات والتعدي على الأملاك العامة والخاصة, وتخفيض الضرائب على ذوي الدخل المحدود وزيادتها على ذوي الدخول غير المحدودة.
– هل سيبقى حلفاء الحكومة السورية “روسيا – إيران” متفرجين على ضعف الاقتصاد الحكومي ؟
يعاني كل من روسيا وإيران حليفا الحكومة السورية من ارتباط اقتصادهما وموازنات دولتهما بالعائدات النفطية أو بالمصادر الطبيعية الريعية، والتي بدورها ترتبط بالسوق العالمية وبما يرافقها من هزات وتأثيرات على مستوى الأسعار أو كميات الإنتاج.
وقد تعرض اقتصاد البلدين في السنوات الأخيرة إلى عقوبات اقتصادية أمريكية وأوروبية شديدة الوطأة وإلى تدهور أسعار النفط، بسبب حمى الإنتاج من داخل وخارج أوبك, وبالتالي تراجع القدرات الاقتصادية للبلدين.
ولا تمتد آثار الاقتصاد الريعي للبلدين إلى هشاشة البنى الاقتصادية فحسب، إنما تطال البنى المجتمعية والبنى السياسية وتؤثر في تشكيل علاقات السلطة داخل جهاز الدولة, ورسم شكل وجوهر العلاقة بين النظام والمجتمع مما يجعل الوضع في كلا البلدين شديد الشبه بالوضع السوري، من حيث طبيعة وحجم المشكلات ومن ضمنها المشكلات الاقتصادية.
من هذا المنطلق من غير المتوقع, برأيي, أن تتمكن روسيا وإيران من تقديم العون والمساعدة الاقتصادية للحكومة السورية، بل على العكس، ما نشهده هو أنهما يعملان الآن على تحصيل المكاسب الاقتصادية من خلال التهافت على سحب السلع الوطنية من السوق السورية واستثمار بعض المؤسسات الوطنية والعقارات السورية مما يساهم في انهيار الوضع الاقتصادي في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن توقف الخط الائتماني الإيراني كان أحد أسباب تدهور سعر صرف الليرة ومن غير المتوقع إعادة تفعليه. إن المراهنة على تدفقات نقدية من روسيا وإيران كان ولا يزال رهاناً خاسراً لا يسمن ولا يغني من جوع.
– هل نحن بصدد السير في طريق “تعويم” الليرة السورية خلال الفترة القريبة القادمة ؟
منذ تغيرت الإدارة الاقتصادية توقف البنك المركزي السوري عن التدخل المباشر وغير المباشر من أجل استقرار سعر صرف الليرة, وصارت الحكومة وبنكها المركزي يتفرجان عن عمد على تدهور سعر الصرف وارتفاع الأسعار الجنوني دونما إعلان مباشر عن توجهها نحو تعويم الليرة وتعويم الأسعار والرفع التدريجي للدعم الحكومي, وغدت خيارات الحكومة محدودة للغاية، إما أن تمد يدها إلى جيبة الغني أو إلى جيبة الفقير, وقد اختارت للأسف الشديد مدها إلى جيوب الفقراء الذين ازدادوا فقراً، بينما تساعد الأغنياء لكي يزدادون ثراء.
إن تعويم الليرة والأسعار جار على قدم وساق وفق سياسة اقتصادية ممنهجة ومخطط لها، تصب نتائجها في مصلحة فئة معينة تتحلق حول نظام الحكم وتقاوم التغيير بكافة أشكاله. ونتائج التعويم مرجح أن تستمر على مستوى سعر صرف الليرة وعلى مستوى أسعار السلع والخدمات ما لم يحدث تغيير جذري ونوعي في اتجاه السياسة الاقتصادية للحكومة.
– في حال فرضت واشنطن عقوباتها الجديدة “قيصر2” هل ستكون أشد وطأة على الحكومة وهل ستؤدي لمزيد من انهيار الليرة والاقتصاد السوري ؟
لم تكن العقوبات الاقتصادية قط السبب المباشر للأزمة الاقتصادية التي بدأت قبل حتى مصادقة الكونغرس الأمريكي على قانون سيزر بعدة أشهر, وقبل أيضاً انتشار جائحة كورونا, وقبل الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان وحجب عشرات مليارات الدولارات السورية المودعة في جهازه المصرفي, فالأزمة أو الكارثة الاقتصادية سببها الحرب وخروج قطاعات مهمة من الدورة الاقتصادية وفشل الحكومة في معالجة الملفات الاقتصادية وتأخر الحل السياسي بسبب تخندق جميع الأطراف الداخلية المتصارعة وانشغال الأطراف الخارجية الفاعلة والمتدخلة والداعمة بمصالحها.
يطفو قانون العقوبات الأميركي المعروف بقانون سيزر مجدداً على السطح، وتتسارع وتيرة الجدل حول تعديل القانون الذي وضع حيز التنفيذ في منتصف يونيو (حزيران) الماضي، وتتضمن النسخة المعدلة “سيزر 2 ” مجموعة إجراءات تستهدف كما يشاع لسد الثغرات في القانون الأساسي، ومن ضمنها منح الرئيس بايدن مجالاً أكثر دينامية يخوله إنشاء مناطق اقتصادية، والتشدد بالاستهداف المباشر لكل من المؤسسات والكيانات والشخصيات التابعة للحكومة السورية، أو حتى الداعمة لها.
وفي غضون هذا التطور من المرجح أن يكون التشدد في القانون الجديد هو الزام الرئيس الأمريكي بعدم التساهل في الملف السوري، مما قد يترك آثاراً سلبية إضافية على الاقتصاد السوري كتأخر أو منع إمدادات السلع وخاصة المشتقات البترولية وقطع الغيار وزيادة تكاليفها, وبالتالي زيادات إضافية على أسعار السلع والخدمات ومزيد من تراجع سعر صرف الليرة.
ويترافق “سيزر 2″ مع مشروع قانون المكافآت من أجل العدالة، بهدف توسيع نطاق العقوبات على من ينتهك قانون ” سيزر”، وتشديد الحصار الاقتصادي على الحكومة السورية.
إن الخروج من هذه الحالة الكارثية للاقتصاد الوطني مرتبط بتحريك عجلة الإنتاج المرتبط بدوره عضوياً بإعادة الإعمار وعودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم للمساهمة في إعادة الإعمار للأهمية القصوى للموارد البشرية السورية التي تتميز بالقدرة التشغيلية العالية المفيدة لعملية تعافي الاقتصاد السوري.
وهذا كله مرتبط في الوقت ذاته بالحل السياسي وفق القرار الأممي 2254 ومندرجاته، لأن إعادة الإعمار تحتاج إلى تمويلات ضخمة لا يقدر عليها حلفاء الحكومة السورية, أما الآخرون فيربطون مشاركتهم فيها بمدى التقدم في الحل واستجابة الحكومة للقرار الأممي.
حوار: ربى نجار