فكرة التقسيم في سوريا مغرية لبايدن وهو من أنصارها منذ أن طرحت إبّان الغزو الأميركي للعراق وكان حينها نائبا في الكونغرس واليوم وقد أصبح رئيسا تبدو الظروف مواتية للدفع بهذا الاتجاه.
القوات الأميركية تدفع بتعزيزات عسكرية إلى محافظة دير الزور شرق سوريا. ليس بأمر من الرئيس المنتخب جو بايدن، وإنما تمهيدا لما ينتظر فعله من ساكن البيت الأبيض الجديد حيال أزمة تقترب من إتمام عقدها الأول دون بوادر حل سياسي.
التعزيزات تلت تصاعد عمليات داعش شرق نهر الفرات، وسواء كان ذلك مدبّرا من دمشق وحلفائها أم لا، فإن حربا جديدة ومحدودة على الإرهاب هناك تلوح في الأفق، وقد ترسم محددات سياسة بايدن في سوريا خلال سنوات حكمه.
التعزيزات أيضا جاءت بعد هدوء التوتر بين قوات الدفاع الوطني التابعة للحكومة وقوات الأسايش في مدينة القامشلي. وبالنسبة إلى الرئيس بايدن الذي يعتبر الأكراد حلفاء تجب حمايتهم، فإن كل من يرفع السلاح ضد هؤلاء الحلفاء هو إرهابي لا بدّ من مطاردته. فكيف إن كان هذا الإرهابي مدعوما من روسيا أو إيران أو حتى تركيا التي لا يبدو الرئيس المنتخب مهتما بمخاوفها إزاء تأسيس إقليم كردي سوري يمثل امتدادا لنظيره وجاره العراقي، ويلهم أبناء القومية ذاتها في بقية دول الجوار.
قد تبدو فكرة التقسيم مغرية لبايدن، وهو من أنصارها منذ أن طرحت إبّان الغزو الأميركي للعراق.
كان بايدن نائبا في الكونغرس فقط، أما اليوم وقد أصبح رئيسا للولايات المتحدة وتبدو الظروف مواتية جدا للتقسيم في البلدين، فربما يمضي في مشروعه المؤجل منذ نحو ثلاثة عقود.
هنا يكون ما تركه سلفه دونالد ترامب إرثا قيّما، وتكون الوصايا التي تركها المبعوث الأميركي السابق بالنسبة إلى الملف السوري والتحالف الدولي ضد داعش، جيمس جيفري، هي ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار.
جيفري دعا الإدارة الجديدة للبيت الأبيض إلى مواصلة نهج ترامب في التعامل مع الأزمة السورية. وأبرز إنجازات ترامب في هذه الأزمة على مدار السنوات الأربع الماضية، هي هدم “دولة” الدواعش، وعرقلة تطبيع دول العالم مع “الرئيس” بشار الأسد، ومنح أراض مجانية لتركيا شمال البلاد، ودعم إنشاء إقليم كردي مستقل شرق نهر الفرات. قد تبدو هذه الإنجازات متناقضة قليلا، ولكنها تمنح الإدارة المقبلة للبيت الأبيض مرونة في التعامل مع الأزمة وفقا للمصلحة الأميركية العليا.
في دعوته إلى تبني نهج سلفه في الأزمة السورية، يترك جيفري للرئيس المنتخب ثلاثة خيارات أسس لها ترامب وفق مستجدات المنطقة على ضوء علاقة بلاده مع إيران وروسيا وتركيا، الأول هو إعادة الشرعية إلى الأسد بعد إجراء إصلاحات داخلية تنفيذا للقرار 2254، والتعاون مع الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب، والتخلص ممّا بقي لديه من أسلحة كيمياوية، ثم “محاسبة” مرتكبي جرائم الحرب التي وقعت خلال عقد من الأزمة، وأخيرا ضمان عودة “حرة” و”كريمة” للاجئين والنازحين.
الخيار الثاني المستشف من تلك المقابلة الصحافية التي أجراها جيفري مؤخرا، وهو أيضا لا يتضمن إسقاط النظام، يتمثل بتقسيم سوريا إلى عدة أجزاء. وجود هذا الخيار هو حقيقة لا يستطيع أحد نكرانها، وهي ما تدفع بغالبية الأطراف الدولية والمحلية المعنية إلى المماطلة في حل الأزمة، إمّا لأنها تفضل هذا الخيار وتعمل على تمرير الوقت كي يتحوّل إلى خيار يتيم، وإمّا لأنها تستفيد من عصاب التقسيم لتخويف خصومها ومنافسيها، ودفعهم نحو تنفيذ مقترحاتها وخططها لحل الأزمة في البلاد.
المبعوث السابق يقول إن الجيش التركي في إدلب السورية بات يقدّر بعشرات الآلاف، وهو بدعم من الأميركيين والأوروبيين، يستطيع عدم إعادة المحافظة إلى سيطرة “الدولة”.
ومع اعتراف واشنطن بتبعية الجولان المحتل لإسرائيل، وتوسيع دائرة دعمها للأكراد شرق نهر الفرات اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، إضافة إلى قبولها بالوجود العسكري الروسي في سوريا إلى الأبد، نستنتج أن مشروع تقسيم سوريا وارد، ولم تصرف الولايات المتحدة النظر عنه مهما ادّعت عكس ذلك في وسائل الإعلام.
مع أخذ المعطيات السابقة بعين الاعتبار، يصبح خروج إسرائيل والولايات المتحدة وتركيا وروسيا من سوريا مستبعدا، ولا يتبقى إلا إيران التي يريد بايدن عقد اتفاق جديد معها ومصالحتها بمجرد دخوله إلى البيت الأبيض. لن يسمح الرئيس المنتخب للخمينيين ببناء قوة عسكرية جنوب سوريا على غرار حزب الله جنوب لبنان، ولكنه لن يحارب ميليشياتهم التي تغلغلت في المجتمع السوري فكرا واقتصادا وسياسة، خاصة وإن وافقت طهران على وضع ضوابط أميركية لبرنامجيها النووي والصاروخي.
يعرف جيفري أن إيران لن تخرج من الدول العربية التي تهيمن عليها دون حرب تجبرها على ذلك. ولأنه يجهل إن كانت المنطقة تنتظر حربا فعلا، أم أنها مقبلة على صفقة جديدة بين بلاده وطهران، وضع خيارا ثالثا أمام الإدارة الأميركية الجديدة يتمثل بتعليق أزمات الشرق الأوسط إلى أجل غير مسمى. وهذا يعني الاستمرار بتقليم أظافر الخمينيين خارج حدودهم حتى بعد إبرام اتفاق يضبط برنامجهم النووي، وهو عكس ما فعل الرئيس الأسبق باراك أوباما في اتفاق لوزان عام 2015.
ولأن أولويات عديدة تتقدم أزمات المنطقة على أجندة بايدن في السياسة الخارجية، يمكن أن يكون خيار جيفري الثالث هو الأكثر واقعية، خاصة وأنه تجنب الخوض كثيرا في أزمات العراق وسوريا واليمن ولبنان خلال حملته الانتخابية. وكأن لسان حاله يقول إن إدارته لن تسعى إلى استقرار الشرق الأوسط إن جرت الرياح على عكس ما تشتهي سفن الديمقراطيين في تنفيذ أجندة أميركية تعيد فيها الولايات المتحدة صياغة التحالفات والاتفاقيات الدولية بما يناسب تطلعاتها في المنطقة والعالم عموما.
بهاء العوام – صحافي سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة