ما حصل ترك ندوبا عميقة سواء في صورة الولايات المتحدة أو في إدراك الأميركيين لذواتهم ولنظامهم السياسي وتسبب ترامب في أن يدفع الأميركيون أثمانا باهظة في ولايته كما في خروجه من البيت الأبيض.
كانت واشنطن الأربعاء (الـ6 من يناير) قبلة أنظار العالم، ليس فقط لمراقبة مداولات الكونغرس، في تل الكابيتول، المتعلقة بإقرار تصويت “المجمع الانتخابي”، والبتّ في اسم الرئيس الأميركي المقبل، بعد كل الجدل الذي أثير حول الانتخابات، وبخاصة على ضوء حملات التشكيك والتحريض التي قادها الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، بشكل غير مسبوق في الحياة السياسية الأميركية، وإنما لأن العالم تفاجأ بتلك الجموع التي اقتحمت مبنى الكونغرس، وهو أمر ما كان يمكن تصوره في البلد الذي يعتبر نفسه صاحب أول دستور في العالم، وقلعة للديمقراطية.
مفهوم أن النظام السياسي الأميركي سرعان ما استطاع امتصاص تلك الهجمة، التي اعتبرها حاكم ولاية نيويورك بمثابة انقلاب فاشل، بمتابعة الكونغرس مهمته، ما نتج عنه طيّ صفحة ترامب، الذي شكّل ظاهرة شاذة في الحياة السياسية الأميركية (باستثناء عهد “المكارثية” في خمسينات القرن الماضي)، وانتصار الديمقراطية بإعلان جو بايدن الرئيس المقبل للولايات المتحدة، إلا أن ما حصل ترك ندوبا عميقة، سيصعب جسرها، سواء في صورة الولايات المتحدة خارجيا، أو في إدراك الأميركيين لذواتهم ولنظامهم السياسي، فترامب تسبّب في أن يدفع الأميركيون أثمانا باهظة في ولايته، كما في خروجه من البيت الأبيض.
وعلى الصعيد الحزبي فعلى الأرجح أن الحزب الجمهوري سيعاني كثيرا جراء ذلك، ما يتطلب منه جهودا كبيرة لترميم مكانته وصورته، ولعل من دلائل ذلك خسارته ولاية جورجيا، التي تعتبر حصنا له منذ عقدين، وذلك في الانتخابات الرئاسية، ثم في انتخابات الإعادة لمقعدي مجلس الشيوخ في تلك الولاية (في الخامس من يناير)، وكأن ذلك كان بمثابة تصويت عقابي لترامب وحزبه، وهو الفوز الذي جعل الحزب الديمقراطي في مكانة أفضل بكثير بسيطرته على الكونغرس بمجلسيه (الشيوخ والنواب).
الدرس الأساسي الذي يمكن استنتاجه من كل ما جرى، سواء بالنسبة إلى الولايات المتحدة، أو بالنسبة إلى التجربة الديمقراطية عموما، مفاده أن الديمقراطية تحتاج إلى أدوات ونظم وثقافة لتحصينها وتقويتها باستمرار.
طبعا، قد يصحّ القول إن الديمقراطية في النظام السياسي الأميركي تستمد قوتها من الدستور، الذي يخضع له الجميع من الرئيس إلى أيّ مواطن أميركي، ومن فكرة حقوق المواطن الفرد والحر والمتساوي مع غيره، ومن الفصل والتوازن بين السلطات (التشريعية والقضائية والتنفيذية)، والنظام الفيدرالي (ولايات)، ومن والتداول على السلطة، ومن قوة المجتمع المدني، إلا أن كل ذلك لا يعني أنه لا توجد ثغرات أو عيوب يمكن أن ينفذ منها شخص مثل ترامب، الذي لا يتورّع عن إحداث تصدعات في مجتمع الأميركيين على نحو ما فعل، وفي علاقات بلده مع أصدقائه التقليديين، وهو ما حصل.
طوال الفترات الماضية كان ثمة حديث عن ضرورة تجديد شباب النظام السياسي الأميركي، وعن ضرورة تعزيز الديمقراطية الأميركية، عبر إدخال تغييرات من مثل:
أولا، تغيير طريقة التصويت، بالتحول نحو انتخاب الرئيس من قبل الشعب مباشرة، والانتهاء من فكرة “المجمع الانتخابي” التي باتت متقادمة.
ثانيا، إتاحة تعددية حزبية بدلا من اعتماد نظام الحزبين الكبيرين، الذي يحدّ من التنافس ويضعف المشاركة السياسية.
ثالثا، زيادة فترة عضوية مجلس النواب (435) وهي من سنتين إلى أربع سنوات، علما أن فترة عضوية مجلس الشيوخ (100) ستة أعوام، وذلك لتعزيز استقرار الهيئة الشرعية (الكونغرس).
رابعا، تحديد الصرف على الدعاية الانتخابية التي تتيح فرصا أكبر لمن يملك قدرات مالية أكبر.
بيد أن كل ذلك ليس كافيا، ذلك أن النظام الديمقراطي ـ الليبرالي (وهو المعتمد في الولايات المتحدة وفي النظم السياسية في الغرب) يحتاج إلى ربط الإصلاح السياسي بالإصلاح الاقتصادي وبالتنمية المجتمعية والثقافية، وهذا يتطلب في الولايات المتحدة تحديدا إصلاح النظام الضريبي، لصالح منخفضي ومتوسطي الدخل، بما يساهم في توسيع الطبقة الوسطى، وزيادة الضرائب على الشرائح العليا من أصحاب رؤوس الأموال، وذوي الدخل المرتفع، كما يتطلب ذلك إيجاد نظام عام للخدمات الصحية (الباهظة جدا) وتوسيع نطاق الضمان الصحي، وإصلاح نظام التعليم الجامعي والمهني، وهي أمور تعني أن الأمر يتطلب تقليص الفجوات بين المواطنين في المجتمع الأميركي (من مختلف المكونات الإثنية والثقافية والدينية رجالا ونساء)، وكلها أمور كان قد تحدث عنها العديد من المفكرين الأميركيين ولاسيما بول كندي في كتابيه “صعود وسقوط القوى العظمى”، و”الاستعداد للقرن الحادي والعشرين”.
الفكرة الأخرى التي يجب طرحها هنا مفادها أن إدارة الرئيس بايدن باتت أمام تحديات مضافة، فهي إلى متطلبات مواجهتها جائحة كورونا، بآثارها الاقتصادية والاجتماعية، وسعيها إلى ترميم مكانة الولايات المتحدة على الصعيد العالمي، واستعادة علاقاتها مع حلفائها التقليديين، والمضي ببرنامج الرعاية الصحية والتقديمات الاجتماعية، وسعيها إلى رأب الصدع بين مختلف أطياف ومكونات المجتمع الأميركي، ستقف، أيضا، أمام مهمة تعزيز الديمقراطية وإصلاح النظام السياسي الأميركي.
ولا شك أن إدارة بايدن تتمتع بميزتين، أولاهما، أنها تمتلك أغلبية مناسبة في الكونغرس بمجلسيه، لتمرير ما تريد. وثانيتهما، أنها تستمدّ قوة دفع في هذا الاتجاه من المناخات أو التداعيات التي خلفتها إدارة ترامب والحركة “الانقلابية” المتمثلة بمحاولة اقتحام الكونغرس. وربما إن بايدن يعرف أنه معني، في السنوات الأربع القادمة، بالذهاب في هذا الاتجاه، وفقا لتجربته، وأيضا وفقا لكلامه عن أنه سيكون رئيسا لكل الأميركيين.
ماجد كيالي – كاتب سياسي فلسطيني – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة