يحتدم الجدل اليوم بين السوريين، وخاصة في أوساط المعارضة وناشطي المجتمع المدني، حول التمييز بين العدالة التصالحية والعدالة التعويضية، وبينهما وبين العدالة الانتقالية، وأساساً لرفض مصطلح العدالة التصالحية الذي أورده المبعوث الدولي بيدرسون على لسان بعض ممثلي المجتمع المدني خلال الإحاطة التي قدمها، منذ أيام، لمجلس الأمن حول سير أعمال اللجنة الدستورية؛ حيث سارع هؤلاء لتوضيح ما حصل، وأن ثمة مغالطة وتفسيراً خاطئاً لمطلبهم بضرورة تعويض المتضررين، وأنهم لم يتطرقوا أبداً لفكرة العدالة التصالحية التي تعفي المرتكبين من المساءلة والمحاكمة، بل يتمسكون بالعدالة الانتقالية بصفتها عملية سياسية واجتماعية وقانونية متكاملة لمعالجة مخلفات الصراع الدموي السوري، ما أكره بيدرسون على التراجع والتأكيد على أن ما عرضوه فعلاً هو ما سماه «العدالة التعويضية» في سياق الحديث عن السكن والأراضي وحقوق الملكية!
لكن، وبغض النظر عن حقيقة ما جرى فإنه يشير إلى الدرك الذي وصلت إليه حالة الاستهانة والاستهتار بحقوق السوريين، والأهم بما حل بالقرار الأممي 2254 الذي أصدره مجلس الأمن في مثل هذه الأيام منذ 5 أعوام، وتحديداً في 18 يناير (كانون الثاني) 2015 والذي يفترض أن يعمل المبعوث الدولي على تنفيذه.
هي 5 سنوات عجاف، مرت على خريطة الطريق التي رسمها المجتمع الدولي لإخماد النار السورية، وتضمنت من حيث الجوهر، وقفاً لإطلاق النار والبدء بعملية سياسية تبدأ بتشكيل هيئة للحكم الانتقالي ذات صدقية خلال 6 أشهر، تحدوها صياغة دستور جديد وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة في مدة لا تزيد على سنة ونصف سنة، وتتخللها مهام ذات طابع إنساني كإطلاق سراح المعتقلين وكشف مصير المفقودين وعودة اللاجئين.
هي 5 سنوات عجاف مرت على اللحظة التي رفضت فيها المعارضة السورية هذا القرار لأسباب كثيرة، أهمها تهربه من تحديد موقف واضح من مسؤولية رموز السلطة عما حصل وضرورة إبعادهم عن المشاركة بمستقبل البلاد، كما على اللحظة التي بدأ فيها النظام وحلفاؤه في طليعة المدافعين عن القرار، قبل أن يتضح أن سلطة دمشق وحكومة طهران تمسكتا به كمناورة لربح الوقت ووقف التغيير الحاصل على حسابهما في توازنات القوى، بينما تقبلته موسكو، كي تمرر، بأقل ردود فعل، تدخلها العسكري المستجد في سوريا (سبتمبر/ أيلول 2015) بدليل أن الأطراف الثلاثة توسلت مختلف المناورات لتعطيل القرار الأممي وعرقلة أي محاولة، مهما بدت متواضعة، لوضعه موضع التنفيذ..
أولاً، عبر التسويف والمماطلة وإغراق مفاوضات جنيف، المعنية بتنفيذ القرار الأممي، بتفاصيل وتفسيرات واشتراطات مضحكة ومربكة في آنٍ، لإفراغ هذا القرار من محتواه، ربطاً بتسعير العنف والقصف والاجتياح الذي مكنهم من الاستيلاء على مدينة حلب ومساحات واسعة من أرياف حمص ودمشق ودرعا، وفرض هدن وتسويات مذلة وتهجير قسري على المناطق المحاصرة.
ثانياً، عبر المبادرات التي قادتها روسيا لخلق مسارات تفاوضية جانبية تمكنها من التحكم في مصير الصراع السوري ومستقبله، ويمكن أن ندرج في هذا السياق «إعلان موسكو» (يناير 2016) الذي أصدرته روسيا وإيران وتركيا بعد عام تماماً من القرار الأممي، تلاه ما عرف باجتماعات الآستانة بعد عام آخر (يناير 2017) والتي إن حققت بعض النتائج الميدانية وفرضت ما عرف بمناطق خفض التصعيد، لكنها أخفقت في التقدم، وإن كان بخطوات بسيطة، في العملية السياسية، ما شجع قيادة الكرملين، بعد عام جديد (يناير 2018) على عقد مؤتمر سوتشي، عساه يشكل طوق نجاة سياسياً يُخرج الوضع السوري من حالة التفسخ والاستنقاع.
5 سنوات كانت خلالها مفاوضات جنيف تعاني الأمرين، وبدت بجولاتها الكثيرة، عقيمة ومملة وتسير في طريق مسدودة، بسبب استراتيجية التعنت والاستهتار والمماطلة التي اتبعها النظام وحلفاؤه، وبسبب استمرار السلبية المقيتة للمجتمع الدولي في التعاطي مع قراره الأممي، الأمر الذي شجع المبعوث الدولي ستيفان ديمستورا على الاجتهاد لتحريك المفاوضات عبر تقسيمها إلى 4 سلال (مارس/ آذار 2017)، هي الحكم الانتقالي غير الطائفي، والدستور، والانتخابات البرلمانية والرئاسية، وسلة رابعة حول مكافحة الإرهاب أضافها ممثلو النظام، لكن ذاك الاجتهاد لم يثمر سوى منح السلة الدستورية الأولوية والتعويل عليها كمفتاح للحل، الأمر الذي استبعد السلال الأخرى، وأطاح الجداول الزمنية المقررة تباعاً، وحصر المفاوضات في مساحة ضيقة، تقتصر على إنجاز مشروع دستور جديد عبر لجنة توافقية، تمثل النظام والمعارضة والمجتمع المدني، استغرق تثبيت أسمائها عامين كاملين، فكيف الحال وقد عيل صبر الجميع قبل أن تعقد هذه اللجنة اجتماعها الأول، بالتزامن مع استقالة المبعوث الأممي ديمستورا وتعيين بدلاً منه غير بيدرسون، الذي نجح نسبياً في نقل هموم السوريين إلى مستوى ما لمسناه مؤخراً، إلى الجدل حول الفوارق بين العدالة التصالحية والعدالة التعويضية، من دون أن ينبس بحرف واحد عن الإجراءات التي تتخذها السلطة السورية لتجديد نفسها، كالانتخابات البرلمانية التي جرت، والانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في الصيف المقبل، ومن دون أن يعترض على سلوكها الذي يتناقض مع خطة الطريق الأممية، أو يفند ادعاءاتها عن أن الانتخابات شأن سيادي لا علاقة لها بالقرار 2254 أو بأعمال اللجنة الدستورية.
لم تنجح أي جولة من المفاوضات في التقدم خطوة واحدة نحو الحل السياسي، بل عجزت عن توفير الحد الأدنى من مطالب السوريين المنكوبين، وخاصة في الجانب الإنساني المتعلق بإطلاق سراح المعتقلين وكشف مصير المفقودين والمختفين قسرياً وضمان شروط آمنة لعودة المهجرين، وبينما اتسم موقف النظام وحلفائه بالتشدد وربح الوقت والأرض، بدت المعارضة السورية ضعيفة ومستعدة لتقديم التنازل تلو التنازل، حتى الاستسلام لمناقشة الدستور وفق اشتراطات النظام نفسه، والأنكى الغرق في موجات تفسير عما قاله المبعوث الدولي وعما يريده!
كلنا يتذكر ما حل بالقرار الأممي الشهير 242 الذي لم تبق منه سوى إشارة شكلية وصورية بأنه الأساس لتسوية النزاع العربي الإسرائيلي، والأرجح، مع حفظ الفوارق، أن يصل القرار الأممي 2254 إلى الحالة ذاتها، ويغدو مجرد إشارة شكلية وصورية بأنه الأساس لمعالجة المأساة السورية.
أكرم البني – كاتب سوري – الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة