متى يعيد الأسد الابن سوريا لأهلها من المهجرين قسرا والمعتقلين والنازحين والصامتين على قهر؟ وأنا متى أعود لأقلّب ما تبقى من أيام في روزنامة أمي المعلقة على حيطان دمشق؟
لو لم أغادرها لكان لي اليوم درجٌ أصعده قفزاتٍ نحو الطابق الثاني من بيتنا في حيّ المهاجرين يحاكي بشرفته الشاسعة خدّ قاسيون الأسمر، يحدّثه عن تلك اليافعة التي لا ترضى بأقل من الشعر مستقرا.
ولكانت أحواض البنفسج المرصوفة على حوافها لا تزال شاهدة على انبلاج قهوتنا العامرة بدخان حب الهال، وعلى الحركة السريعة لأمي وهي ترتّب يومنا الجديد، تعدّ له بحبها الرفيع حتى لا نتعثّر بطيشنا.
ولكان جيران الخير هم جيران الخير، يتقاسمون الحكايا وأرغفة الخبز الساخن، وبعضا من النميمة الطريّة.
ولكان بائع “التماري والكعك” لا يزال متوقّفا بعربته الزجاجية الصغيرة تحت شبّاكنا، رافعا رأسه مناديا باسم تلك الحلوى الأيقونية – مفتاحي الصباحي إلى سُكّر الحياة.
لكني عبرت باتجاه عاصمة الانبهار باريس، ومنها إلى معقل الأشدّاء وراء المحيط.. ولم أعد!
في العام 1967 أصدر حزب البعث الحاكم في سوريا أمرا يقضي بالاستيلاء على الملكيات الخاصة بما فيها الملكيات الكنسية
لم يسعفني الابتعاد في الهروب من المشاهد الراجفة في الذاكرة تنتابني نوبات من نوستالجيا الغارق في إنكار مثواه الأخير.
غادرت قبل أن أجمع صورنا المعلقة إلى الجدران وأسلاك الهواء، وتسلّلتُ من الباب الخلفي تجنّبا لطقوس الوداع الثقيل على الروح، ففي السفر موت مؤجّل.. وأنا لا أريد أن أموت بعيدا عن روزنامة أمي.
كانت تقلّب أوراق الأيام من إمساكية رمضان (روزنامة الصائمين يوزعها جارنا البقال كل سنة مرة ولأمي دائما منها نصيب)، وغالبا ما كانت تسجّل على هامشها عدد باقات النعناع التي ستشتريها وكم دمعة ستسكب بعد أن أغيب.
نسغ دمشق مغروس في وريدي كالمصل في عروق المسجّى في غيبوبة.. فكيف سيسعفني أكسجين المدن الغريبة خارج هذا الشرط؟!
شريط درامي من صور الطفولة يداهمني وأنا على بعد قارتين من مسقط الرأس دمشق.
مزارع التفاح والدرّاق في جبال مصيف بلودان حيث اختبرت رعشتي الأولى وقصيدتي الأولى أيضا.
الطابور الصباحي، الطويل واليومي، على أبواب الفرن الذي يقابل شرفة بيتنا، هناك حيث نبتت أشواك وعيي السياسي المبكّر بحقيقة اعتلال الحياة المدنية في دمشق ورجاحة كفة العسكر.
الوقفة المذلة لأهل الحي، سيدات وشيوخا وأطفالا، على أبواب فرن العمّ أبوعجاج بانتظار الحصول على ربطة من الخبز، في حين يتمكّن سائق سيارة جيب عسكرية تتوقف بعصبية استفزازية على الرصيف من اختراق الصفوف في برهة ليحصل على خبزه على الفور متجاوزا كل المنتظرين في الطابور الطويل بحجة ضرورة إسراعه للالتحاق بمهامه العسكرية على خط الجبهة، الجبهة الأهدأ في العالم التي لم تشهد إطلاق رصاصة واحدة باتجاه “العدو” منذ استولى حافظ الأسد على السلطة بقوة السلاح وفعل الانقلاب العسكري.
طابور لقمة العيش امتدّ في الزمان والمكان واجتاز عهد الأب إلى الابن.. وها هم أهل دمشق في العام 2020 في الوقفة المذلّة عينها.. لكن، فوق ركام المدينة!
في المدرسة الفرنسية بدمشق “مدرسة راهبات الفرنسيسكان” حيث تلقّيت تعليمي الابتدائي والإعدادي، وتخرّجت منها متمّمة المرحلة الثانوية، كان لقائي الأول “المجازي” مع الرب!
في المدرسة التي كانت غالبيتها طالبات مسلمات من البرجوازية الدمشقية “التي انكفأت”، مع أقلية من الطالبات المسيحيات، كانت مادتا الديانة الإسلامية والمسيحية تدرّسان لنا في نفس الحصة الزمنية ولكن بعد أن يتم فصل الطالبات المسيحيات عن زميلاتهن المسلمات، حيث كنا ـ أعني المسلمات ـ لا نغادر غرفة الصف، بينما كانت مجموعة الطالبات المسيحيات تغادرنا إلى حيث يتربع الدير المسيحي في قبو المدرسة ذات البناء المعماري الفرنسي العريق.
كان الفصل بين الزميلات، القائم على الانتماء الديني، يثير في نفسي الكثير من إشارات الاستفهام عن ماهية الاختلاف بين تعاليم الديانات السماوية وطبائعها وأهوائها طالما أننا نتوجّه، أفرادا وجماعات، على اختلاف هوياتنا الدينية، إلى عبادة الرب الله الأحد، فاطر السموات والأرض.
أشدّ ما كان يثير مخيلتي وفضولي، هو ذلك المقصد الذي يكمن خلف الأبواب المغلقة للدير المهيب في القبو، حيث كانت الزميلات المسيحيات يتلقين دروس الديانة المسيحية، وقد كُتِب بالعربية على بابه الشاسع المغلق في هيبة عبارة: بيت الله.
تسللتُ خلف الراهبة الأم ـ كما كنا ندعوها ـ وهي تفتح باب الدير الكبير بمهابةٍ، كانت تلج دارة من الظلال التي لا يشوب سكونها سوى حزمات من الضوء النافذ من زجاج الشبابيك المعشّق بوجوه القدّيسين.
طابور لقمة العيش امتدّ في الزمان والمكان واجتاز عهد الأب إلى الابن.. وها هم أهل دمشق في العام 2020 في الوقفة المذلّة عينها.. لكن، فوق ركام المدينة
تقدّمَني حفيف ثوبها الناصع البياض وهو يندرج برويّة على الرخام البارد للممر الطويل الذي يؤدّي إلى المذبح. عبق البخور يتناهى يسيرا إلى حواسي المستنفرة، بينما الشموع تُكمل ثالوث الأبيض والبخور والنور، وقد ارتسم في سنيّ وعيي المبكّر خطا افتراضيا يصل “الموجود” الأرضيّ بـ”المرموز” السماويّ.
في العام 1967 أصدر حزب البعث الحاكم في سوريا أمرا يقضي بالاستيلاء على الملكيات الخاصة بما فيها الملكيات الكنسية.
بناء عليه، نُفّذ قرار يقضي بتأميم مدارس راهبات ورهبان الفرنسيسكان التي شُيّدت منذ العام 1942، ومنها مدرستي، بعد أن أزالوا التماثيل والأيقونات عن بهوها الكبير.. وقتلوا البخور في المهد.
في العام 2020 عادت ملكية مدرسة الفرنسيسكان في حلب لرهبنة الآباء الفرنسيسكان المالكين الأصليين، بما دُعي “مكرمة” بشار الأسد.
سؤال: متى يعيد الأسد الابن سوريا لأهلها من المهجّرين قسراً، والمعتقلين، والنازحين، والصامتين على قهر؟
وأنا.. متى أعود لأقلّب ما تبقّى من أيّام في روزنامة أمي المعلّقة على حيطان دمشق؟
مرح البقاعي – كاتبة سورية أميركية – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة