لن تنجح روسيا في إعادة اللاجئين أو تبديل بنود الحل السياسي للأزمة السورية ليس فقط لأن موسكو لا تملك القول الفصل في هذه الأزمة بل لأن العالم يعيش أولويات أخرى.
تريد روسيا عقد مؤتمر دولي للاجئين السوريين. المكان هو العاصمة دمشق والزمان بعد الانتخابات الأميركية، أما الأهداف فهي متعددة ولكنها لا تتضمن الغرض المعلن من المؤتمر، فلا الرئيس بشار الأسد يريد عودة اللاجئين، ولا خصومه الأميركيون والأوروبيون يريدون تسهيل الأمر، ولا اللاجئون يريدون العودة أصلا إلى واقع أسوأ مما كان عليه حالهم قبل الرحيل في نواح عدة.
الروس يريدون فقط معرفة ما حملته التغيرات التي لحقت بالعالم والمنطقة خلال هذا العام وسابقه، من تأثير على الأزمة السورية. هم في الواقع لا يستطيعون فعل الكثير لإعادة أكثر من ستة ملايين لاجئ، سواء على صعيد إعادة إعمار سوريا لاحتضانهم، أو على مستوى تقديم الضمانات الأمنية بأنهم سيعيشون بسلام، ولن يخضعوا للاعتقال أو القتل أو الاختفاء القسري أو “الانتحار”.
يمكن للروس أن يجبروا الأسد على اتخاذ قرارات استراتيجية في الحرب، أو منحهم امتيازات ثقافية واقتصادية ودينية مهولة في سوريا، ولكنهم لا يستطيعون بسط الأمن في البلاد. فأذرعهم الأرضية لا تكفي لمواجهة ميليشيات إيران، والعصابات المسلحة، ورصد تحركات خمس إدارات من الاستخبارات تمتلك خبرة خمسة عقود من ملاحقة السوريين ومطاردتهم حتى في أحلامهم.
ثمة من يمتلك رأيا آخر، ويقول إن روسيا فلاديمير بوتين قادرة على تقديم الضمانات اللازمة في هذا الشأن. ولكن ماذا عن الرئيس الخائف من تجدد التظاهرات ضده بعد عودة اللاجئين والنازحين. هل تكفل له روسيا عدم وقوع ذلك؟ هل تبدو تجربة درعا وغيرها من المناطق التي استردها النظام عبر المصالحات، مشجعة ويمكن الرهان عليها في إدارة البلاد من قبل “الأسود” ثانية؟
تدرك موسكو جيدا أن إعادة اللاجئين السوريين لم تنضج ظروفها المحلية والدولية. رد الاتحاد الأوروبي على المبادرة الروسية في هذا المسعى قال ذلك بوضوح شديد، فهي “سابقة لأوانها” برأي الممثل السامي للاتحاد. أما الولايات المتحدة، غير المهتمة بتاتا بهذه المبادرة قبيل الإعلان عن نتائج الانتخابات، فهي تعارض الفكرة طالما أن الأسد ومن خلفه الروس يرفضان إجراء أي تغيير في سوريا.
رفض الأميركيين للمؤتمر وحده يكفي لإفشاله، ولكن رفض الأوروبيين لا يقل أهمية ويبعث برسالة واضحة للروس خالفت توقعاتهم. فموسكو كانت تراهن على استغلال نقمة الغرب على اللاجئين والمهاجرين لأسباب اقتصادية وأمنية، من أجل حشد القبول لخطتها في دفع عملية إعادة اللاجئين إلى واجهة الأزمة السورية، بدلا من إحداث تغيرات سياسية لا تفيدها ولا يريدها الأسد.
الأوروبيون متمسكون بموقفهم، على الأقل حتى تتضح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. صحيح أنهم ضاقوا ذرعا من الاستغلال التركي لورقة اللاجئين وابتزازهم بها منذ سنوات، إلا أنهم ما زالوا يفضلون مراحل الحل الأممي للأزمة في سوريا. فلا بد أولا من إنهاء الحرب وإجراء التغيير السياسي، ومن ثم يأتي دور إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين والنازحين إلى بلادهم.
قد يتبدل الموقف الأوروبي إن تبنت الإدارة الأميركية المنتخبة وجهة النظر الروسية. ولكن الأمر لن يكون بهذه البساطة. وطالما بقي الاعتراض الأميركي قائما، فلن يبارك أحد في المنطقة والعالم الخطوة. وبالتالي لن ينعم الأسد بتطبيع عربي، ولن يجمع أموالا يعيد بها بناء سلطته الضائعة وسيادته المهزومة.
ولا شك أن السعي الروسي لتبديل الأولويات الدولية في حل أزمة سوريا من تعديل الدستور وتغيير السلطة إلى إعادة اللاجئين وإطلاق سراح المعتقلين، يستند إلى تغير المزاج العربي من معاداة الأسد وموجة التطبيع التي تتسع رقعتها في المنطقة. فقائمة الخصوم في الشرق الأوسط قد تغيرت اليوم، وبات الأتراك والإيرانيون على رأسها، وخاصة بالنسبة لمصر وبعض الدول الخليجية.
ولا نذيع سرا بالقول إن السلام مع إسرائيل بات أولوية بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية في زمن ترامب، ولا أعتقد أنه سيصبح ثانويا إن جاء بايدن إلى الحكم. ولن يكون أمام الأسد سوى السلام مع إسرائيل ليستعيد شرعيته أميركيا. وعندما يفعل ذلك وتبارك واشنطن نظامه مجددا، ستفتح أمامه جميع الأبواب الموصدة عربيا ودوليا.
لن يتأخر الأسد، ولن يتردد في فعل ذلك ضمن اتفاق واضح المعالم مع إسرائيل، ترعاه أميركا وروسيا. لا يهم إن كان سيتخلى في هذا الاتفاق عن محور “المقاومة”، أو سيتخلى عن هضبة الجولان. المهم فقط هو أن يعاد الاعتراف به كرئيس، وتطلق يده مرة أخرى على السوريين. هذا ما يشغل الأسد على الدوام، وهذا ما تسبب في أزمة أفرزت اللاجئين الذين يحاول الروس إعادتهم.
من دون تنازلات كبرى في صياغة المعادلات الجديدة للمنطقة، سواء عبر إبرام سلام مع إسرائيل، أو فك الارتباط مع طهران، لن تقبل إدارة الرئيس ترامب بالتطبيع مع نظام دمشق مجددا. أما إن فاز بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة فسوف تكون أمام الأسد فرصة للمماطلة وتأخير تنفيذ ذات الشروط التي لن تتغير حتى وإن عادت واشنطن إلى الاتفاق النووي مع طهران.
لن ينجح المؤتمر الروسي في إعادة اللاجئين، أو تبديل بنود الحل السياسي للأزمة السورية. ليس فقط لأن موسكو لا تملك القول الفصل في هذه الأزمة، وإنما لأن العالم يعيش أولويات أخرى ويصوغ توازنات جديدة لا تكترث لملايين من البشر لا يزالون يفضلون اللجوء أو الموت على العودة إلى “الوطن”.
بهاء العوام – صحافي سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة