رغم أن أحزاب الإسلام السياسي، التي تعوّل على الغرب في تبني مشروعها، حاولت النأي بنفسها عن الأزمة بفرنسا على الأقل من الجانب الرسمي، إلا أنها تقود المعركة من وراء الستار.
يسعى الإسلام السياسي بكل الوسائل المتاحة إلى أن يجرّ الإسلام الشعبي إلى حروبه وصراعاته، وآخرها حربه على فرنسا التي اندلعت منذ أيام، لهدفين أساسيين تقف وراءهما تركيا: الأول، استعراض قوة أردوغان ونفوذه في العالم الإسلامي وخاصة في المنطقة العربية، والثانية تتعلق بخلط الأوراق في ما يتعلق بحملة مقاطعة البضائع التركية وتحويلها إلى حملة لمقاطعة البضائع الفرنسية من خلال محاولات رخيصة للتلاعب بمشاعر البسطاء من المسلمين غير المؤدلجين، وغير المدركين لحقيقة الموقف الفرنسي، ولا لعمليات التزوير والتزييف المتعمّدة التي نفذتها غرف جماعة الإخوان وتوابعها بهدف التجييش ضد باريس.
لقد أثبتت حادثة اغتيال مدرّس التاريخ الفرنسي صامويل باتي منتصف أكتوبر، أن الإسلام السياسي بات يمثل خطرا حقيقيا على السلم العالمي في ظل نزعته التوسعية التي يجسدها حاليا مشروع أردوغان، والتي لا تستهدف مجتمعات الدول المسلمة فحسب وإنما كذلك المجتمعات الأخرى الحاضنة لجاليات إسلامية مهمّة، وعلى رأسها مجتمعات أوروبا الغربية، ومنها فرنسا التي يعمل الإسلاميون منذ سنوات على جرّها إلى مواجهة مفتوحة في شمال أفريقيا ودول الصحراء الكبرى، إلى جانب نشاط يومي محموم لاختراق مجتمعها من الداخل.
في الثاني من أكتوبر الجاري قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم، وإن على فرنسا التصدي لما وصفها بالانعزالية الإسلامية الساعية إلى إقامة نظام مواز وإنكار الجمهورية الفرنسية، معلنا عن سياساته ضد ما سمّاه “التشدد الإسلامي الذي يتخذ العنف منهجا له”، وطارحا مشروع قانون ضد “الانفصال الشعوري”، بهدف “مكافحة من يوظفون الدين للتشكيك في قيم الجمهورية”.
في 16 أكتوبر، قام الطالب الشيشاني عبدالله أنزوروف الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، والحاصل على اللجوء إلى فرنسا، بذبح أستاذ التاريخ صامويل باتي من الوريد إلى الوريد، بدعوى قيامه بعرض رسوم كاريكاتيرية مسيئة للرسول أمام طلبته، وذلك ضمن حصة دراسية حرية التعبير، وهو ما أثار حالة من الهلع في المجتمع الفرنسي، ثم خرج الرئيس ماكرون ليعلن في حفل تأبين باتي في جامعة السوربون أن المدرّس قُتل بيد جبناء لأنه كان يجسّد القيم العلمانية والديمقراطية في الجمهورية الفرنسية، مشدّدا على أن بلاده لن تتخلى عن الرسوم الكاريكاتيرية، مما أثار ضده موجة من الانتقادات وحملات الاستهداف تزعمها أردوغان وأبواق الإخوان وانضم إليها بعض ممن يضعون أنفسهم في دائرة الإسلام المعتدل.
عندما قال الرئيس الفرنسي إن بلاده لن تتخلى عن الرسوم الكاريكاتيرية، كانت يقصد الكاريكاتير كعنوان للحرية في فرنسا، لا أحد يستطيع أن يجبر الفرنسيين على تغيير ثوابتهم التي كرسّوها منذ ثورتهم في العام 1789 عندما أقرت الجمعية التأسيسية أن “كل مواطن يستطيع التحدث والكتابة والطباعة بحرية”، في ثاني إعلان لحرية التعبير في العالم بعد أن تبنّت الولايات المتحدة دستورها في عام 1776، وحرية الإعلام تبناها قانون 29 يوليو 1881 الذي يزيل متطلبات الترخيص قبل البث.
يدرك ماكرون أن قيم الجمهورية لا تسمح له بالتدخل في الحريات العامة في بلادها، وخاصة حرية التعبير، وما قامت به مجلة “شارلي إيبدو” الساخرة من ترويج لرسوم نراها كمسلمين مسيئة لرسولنا الكريم، يدخل في سياق عام، حيث لم تدخّر هذه المجلة جهدا في الإساءة لموسى بن عمران وعيسى بن مريم ورموز المسيحية واليهودية وبقية الديانات المنتشرة على الأرض كالبوذية والهندوسية، وهي ترى في ذلك تعبيرا عن رؤيتها للعالم والوجود، وممارسة تلقائية لحقها في التعبير عن خطها التحريري، وعن حريتها في انتقاد الأديان ضمن منظومة تتحرك من داخل المجتمع الفرنسي الذي يحترم الرأي والرأي الآخر.
علينا أن نعترف أننا أمام صراع قد يتخذ صبغة دموية، فالمسلمون عموما وخاصة في المنطقة العربية لا يزالون منفصلين على قيم ثقافة الغرب. ورغم مزاعم الإسلام السياسي لدينا بأنه ديمقراطي ويؤمن بالحريات، إلا أنه لم يدخل بعد عصر التنوير الذي دخلته أوروبا في القرن الثامن عشر، وتأسست عليه قيم الليبرالية العلمانية والديمقراطية بوجهها الغربي الذي نعرفه، ويزعم الإسلاميون أنهم يسيرون على نهجه وهم أبعد ما يكونون عنه، بسبب عدم قدرتهم على التجاوب مع ما يصفه ماكرون بخروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد، معرّفا القصور العقلي على أنه “التبعية للآخرين وعدم القدرة على التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار دون استشارة الشخص الوصي علينا.”
إن مشكلتنا الكبرى هي أننا أمام قوى دينية، ورغم تراوحها بين المعتدل والمتطرف والشعبي والسياسي، إلا أنها تجتمع على أساس رفض خطاب العقل، ولا تزال ترى أن استمرار نفوذها لا يكون إلا بترسيخ ثقافة القطيع، وقطع الطريق أمام كل محاولة جدّية للاجتهاد أو الإصلاح أو التنوير وتحرير العقل من سلطة المقدس، وهو ما لا يمكن للغرب أن يفهمه وبيننا وبينه مسافة أكثر من مئتي عام لفهم علاقة الإنسان بالدين، والتي يراها هو علاقة شخصية مرتبطة بالحرية الفردية، بينما نراها نحن حالة عامّة موروثة تكرّس إيمانا جمعيا غير قابل للاختراق، وتوجب الحرب على من يتمرد عليها.
عندما قام الرئيس التركي بالتحريض على فرنسا والرئيس ماكرون، لم يكن همّه الأول هو الدين أو النبي محمد، وإنما كان ينطلق من صراعه الجيوسياسي مع الفرنسيين في شرق المتوسط وليبيا وعموما شمال أفريقيا ومنطقة الصحراء الكبرى، مرورا بلبنان، ووصولا إلى ساحة الصراع بين أرمينيا وأذربيجان. ولدى أردوغان قناعة بأن ماكرون حليف معلن لدول تعتبرها أنقرة عدوة لها، إضافة إلى موقف فرنسا الواضح منذ عقود من رغبة تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
كما أن تركيا بدأت تعاني من نتائج المقاطعة العربية لسلعها، وخاصة في السعودية والإمارات والأردن والتي بدأت تتمدد إلى مصر وأجزاء من ليبيا وبعض الدول الأخرى، وعندما أطلق ماكرون تصريحاته، استغلها أردوغان في الدفع إلى حملة مقاطعة للسلع الفرنسية، من أجل التغطية على الحملة الأولى وتمييعها وتحويل الأنظار عنها، وقام الإعلام الإخواني الممول من قطر بدوره في ذلك، بهدف التلاعب بعاطفة الإسلام الشعبي ووضعه بين خيارين وهميين: تركيا المسلمة أو فرنسا المعادية للإسلام.
ورغم أن أحزاب الإسلام السياسي، التي لا تزال تعوّل على الغرب في تبني مشروعها الديمقراطي الزائف، حاولت النأي بنفسها في علاقة بالأزمة في فرنسا على الأقل من الجانب الرسمي، إلا أنها تقود المعركة من وراء الستار، وتدفع بأنصارها إلى التحرك وبقوة عبر التظاهر والمقاطعة والتجييش الإلكتروني والإعلامي ضد ماكرون، ليس دفاعا عن الرسول، وإنما من أجل عيون أردوغان الذي يعتبر معركته مع باريس معركة مصير ووجود، إما أن يكسبها فيحقق أحلامه الإمبراطورية وإما أن يخسرها فتنكسر أطماعه التوسعية.
الحبيب الأسود – كاتب تونسي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة