التعامل العنيف لأجهزة الأمن مع الاحتجاجات عام 2011 كشف رعب النظام من وجود معارضة داخلية حتى قبل أن يطالب المحتجون برحيل الأسد، بالنسبة للسلطة وجود المعارضة ورحيل الأسد متلازمتان لا تنفصلان أبداً.
عبر إحدى الفضائيات، يعلن أمين عام واحد من أشباه الأحزاب في سوريا عن محاولة لتوحيد صفوف المعارضة الوطنية، الداخلية منها والخارجية. هنا المقصود بالوطنية وفقاً للسياسي المخضرم، ليس فقط عدم الارتهان للخارج، وإنما عدم طرح ضرورة رحيل “الأسود” عن السلطة كنتيجة لأي تغيير في الدولة.
ولأن الشرطين يستحيل تحقيقهما تحت أي ظرف، يتحول الإعلان عن المحاولة إلى نعي ووأد لها. الإجهار بهذه النتيجة يحيلك طبعا إلى خائن وعابث بمستقبل البلاد برأي “المعارضة الداخلية”. ولكن عزاءك بأن السوريين يعرفون جيداً خرافة هذه “المعارضة” منذ قدوم البعث إلى السلطة وانطلاق حكم “الأسود”.
لم يعرف التاريخ السوري منذ عام 1970 أية معارضة داخلية للحكم. فإما أن تكون مع النظام، أو تعيش معارضا في السجن أو خارج الحدود. حتى الحياد في سوريا لم يكن مقبولا. يمكنك ادعاؤه بقدر ما تشاء. ولكن عندما تبدأ الاحتكاك مع العمل أو المدرسة أو الجامعة أو أية مؤسسة للدولة، تكتشف وهم ادعائك.
عهد الأسد الابن لم يكن بأفضل من زمن الأب في ما يخص أحلام السوريين بمعارضة داخلية في بلادهم. كلاهما لم يرغب بانتقال سلمي للسلطة. ولم يحتمل رأيا مخالفا له حتى في قضايا أبعد بكثير عن ذلك. حتى أن التجمعات لغير الأغراض الترفيهية أو “الأعراس الجماهيرية” كانت ممنوعة ومحرمة تماما قبل 2011.
التعامل العنيف لأجهزة الأمن مع الاحتجاجات عام 2011 كشف رعب النظام من وجود معارضة داخلية له، حتى قبل أن يطالب المحتجون برحيل الأسد. بالنسبة للسلطة وجود المعارضة ورحيل الأسد متلازمتان لا تنفصلان أبداً. وهذا أمر واقعي جداً لأن حكم “الأسود” باطل وفاشل بكل المقاييس والمعايير.
في هذا السياق يمكن تفسير تصنيف النظام لمعارضيه بين إرهابي ومرتهن للخارج. فهو يحتاج إلى هذا التصنيف ليعلن الحرب عليهم، ويبث الخوف في قلوب من يفكر بالانضمام إليهم. لكن السؤال هو لماذا تعتمد “المعارضة الداخلية” هذا التصنيف في إقصاء فئات أخرى ضد النظام، إن كانت تسعى فعلاً للتغيير؟
بواقعية أكثر، جميع فئات المعارضة السورية تعتمد ذات التصنيف في التعامل مع بعضها البعض.
كل فئة تدعي أنها هي وحدها من تمتاز بالوطنية التي لم ولن يشوبها الخطأ. أما البقية فهم إما يدعون المعارضة، أو أنهم رهنوا أنفسهم لأجندات خارجية لا تأخذ المصالح السورية في اعتباراتها، ولا تكترث لحال الشعب.
ولأن التخوين هو اللغة السائدة بين فئات المعارضة السورية حتى الآن، يشعر نظام الأسد بالاسترخاء في التعامل مع من يوهمون أنفسهم بإمكانية معارضته في الداخل. أو الذين يعتقدون أن مفاوضات جنيف ستنتهي بتغييره وجلبهم إلى السلطة. أو فئة ثالثة تراهن على الزمن في قبوله بمصالحها الحزبية أو القومية.
بعد خمسة عقود على حكم البعث ونحو عشر سنوات من الأزمة، يدرك الجميع أن نظام الأسد لم يعترف يوما بالمعارضة السياسية في الداخل أو الخارج. وهو اليوم لا يسمع إلا صوت البندقية التي تلقمها دولة من الدول الخمس المحتلة لسوريا. فهذه الدول هي التي تتحكم بمصيره وتبقيه على قيد الحياة إلى الآن.
لا يمكن للأسد استرداد مناطق المحمية الأميركية شرق الفرات. ولا إخراج تركيا من المساحات التي تحتلها شمال البلاد. كذلك لا يقوى على طرد ميليشيات إيران، ولا مواجهة العصابات المسلحة التي مولتها ودعمتها روسيا حتى باتت أقوى من جيش الدولة وأمنها. وقبل كل هذا لا يحرك الأسد ساكنا بشأن الجولان.
ولأن المعارضة بكل مجموعاتها تدرك أن رحيل الأسد وتغيير السلطة في سوريا بات مرهوناً بإرادة واتفاق المحتلين، قررت التعايش مع واقعها الذي قد يستمر لسنوات. وحتى يحين الوقت، لا ضير في ممارسات ترسخ هذا الواقع إلى الأبد، أو على الأقل تحيله إلى جزء أساسي في أي حوار مقبل بين الدول المعنية.
وحدها “المعارضة الداخلية” التي تعيش في كنف “الأسود” لن تطال بلح الشام ولا عنب اليمن.
كل ما ستجنيه هو مزيد من قناعة السوريين بعبثية وجودها وشعاراتها. لم يصدق أحد بوجودها في زمن الأسد الأب، وفقدوا الثقة بعودتها في زمن الأسد الابن. وخاصة بعد عام 2011 وما تبعه من موت ودمار وخراب.
خرافة “المعارضة الداخلية” تلاشت تماماً في أذهان السوريين حاضرا وماضياً وربما مستقبلاً. لا أحد يلومهم على ذلك إن كانت تؤيد النظام طوال عقد من الحرب في بلادهم، وهم لا يرونها اليوم في شوارع مدنهم ومناطقهم وقراهم التي تحولت إلى طوابير لا تنتهي من أجل الحصول على الخبز والرز والمحروقات.
الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير يقول إن من يجعلك تؤمن بالخرافات يستطيع أن يدفعك إلى ارتكاب الفظائع. هذا ما فعله نظام “الأسود” بالسوريين عندما حول المعارضة في حياتهم إلى مجرد خرافة، كما حول الوطن إما إلى حقيبة سفر، أو إلى بضعة أرغفة من الخبز، أو غالون من المازوت، أو حفنة من القمح.
بهاء العوام – صحافي سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة