عندما تكتب سوريا قصتها بنفسها سوف يُصغي الآخرون، والصور سوف تتحول إلى متحف يزوره جيل وجيل وأسماء الضحايا سوف يتم نحتها على جدرانه والمتهمون سوف يخلدون بما فعلوا لا بما يزعمون.
شكت سوريا من استعداد هولندا لمقاضاة نظام الرئيس بشار الأسد، بصفة مباشرة، عن انتهاكاته لحقوق الإنسان التي يعرفها القاصي والداني. وبما أن هذا النظام يحظى بدعم موسكو في مجلس الأمن، فإن أي محاولة لمحاسبته على تلك الانتهاكات، عن ذاك الطريق، ستبوء بالفيتو.
اختارت هولندا أن تسلك طريقا آخر، كان يمكن لأي دولة أخرى في العالم أن تسلكه. وما يزال بوسع أي دولة أن تفعل الشيء نفسه، فتظل تلاحق المتهمين بتلك الانتهاكات، ومن بينهم رؤوس أهل المسؤولية.
فسوريا من البلدان التي وقّعت على المعاهدة الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية. كما أنها صادقت على اتفاقية الأمم المتحدة المناهضة للتعذيب عام 2004.
لا سبيل لكي يفهم المرء لماذا تقوم دولة دأبت على انتهاك حقوق الإنسان وممارسة أعمال التعذيب على قبول هاتين المعاهدتين. شيء مُحيّر بالفعل. ربما لأغراض النفاق. وربما لأغراض الخداع. وربما لأنها تؤمن بقدرتها على دفن ما ترتكبه من جرائم. ولكن في جميع الأحوال فإن التبرير هزيل. فبما أنك اعتدت على ارتكاب جرائم، فليس من الحكمة أن توقّع على اتفاقية تسمح بمقاضاتك.
هولندا استغلت هذا التوقيع، فأرسلت شكوى إلى الحكومة السورية تقول لها إنها ارتكبت جرائم بحق السوريين. وحوّلت المسألة إلى ما يبدو وكأنه نزاع بين دولتين. وربما كان من بين الضحايا الذين أخذتهم هولندا في الاعتبار، من أصبحوا مواطنين هولنديين أيضا، فروا من أعمال القمع الوحشية التي مارسها النظام الراهن طيلة حياته، وليس فقط تلك التي جرت عقب انتفاضات العام 2011 وحدها. وهو ما يزيد ثقلا على “النزاع بين الدولتين”.
ولقد كان من الأجدر بالحكومة السورية أن تقبل الشكوى القانونية الهولندية، وأن تتباحث بشأنها، وتمارس أعمال الجرجرة والتسويف المألوفة من بعد ذلك. ولكنها رفضتها. بل وذهبت الخارجية السورية، بالصلف المشهود، إلى حد أن تشتم هولندا، لتقول “إنها آخر من يحق له الحديث عن حقوق الإنسان”، وذلك على اعتبار أن هولندا يقودها رفاق من الصنف نفسه الذي يقود فروع المخابرات في دمشق.
هذا الرد العنيف، والمتوقع، زاد في تمهيد الطريق لهولندا لكي ترفع القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، إذ أصبحت الدولتان في نزاع مباشر. وهذا مما لا يحتاج العودة إلى مجلس الأمن، ومما لا يمكن لروسيا أن تستخدم ضده حق النقض.
وتعرف سوريا أن ملفات الانتهاكات من الكثرة بحيث أنها تفقأ العين. وهناك من الوثائق والأدلة والبراهين والصور ما لا سبيل إلى المجادلة فيه. وهي كلها تثبت أن أعمال تعذيب وحشية ارتكبت في سجون النظام، وإنها ليست من أعمال الإمبريالية الأميركية، ولا هي من ادعاءات الصهيونية العالمية، ولا هي من المؤامرات على “الصمود والتصدي”. فالمتآمر الوحيد هنا، هو النظام نفسه، بنفسه، على نفسه.
ولو اقتصر الأمر على الصور التي التقطها “قيصر” من داخل سجون النظام، لكان الأمر وحده كافيا للقول إن هذا النظام بلغ من الوحشية والهمجية، حتى ليصعب أن يكون نظاما بشريا، من أول رأس فيه إلى آخر عنصر أمن أو مخابرات.
الأسئلة التي تواجه الرئيس بشار الأسد كثيرة. هل كان لا يعرف بوجود تلك الانتهاكات؟ هل تمت برضاه؟ وهل كان يجوز الصمت عنها وقد تخطت كل حدود البشاعة؟ هل توفرت بين مراكز التعذيب وبين قصر الرئاسة مراسلات بشأن الجثث؟ هل صدرت توجيهات من القصر بشأن التعامل مع أكداس الضحايا، لدفنهم في قبور جماعية؟ وهل تحتفظ مراكز التعذيب بسجلات كافية عنهم؟ أو عن الاتهامات التي وجّهت لهم؟ أم أنهم عُذبوا وقتلوا ومُثّل بأجسادهم حتى من دون اتهامات، أو إجراءات تحقيق أصولية؟
يمكنه أن ينكر طبعا. كما يمكن لكل المسؤولين في جواره أن يفعلوا. وهذا مألوف ومتوقع. ولكن جرائم بذلك المقدار وهذه السعة وتلك الوحشية، إذا تمت من دون معرفته، فهي مشكلة لا تقل سوءاً عن معرفته بها. وفي الحالتين، فقد مرت عدة سنوات، على افتضاح الحقيقة، وهو لم يُحاكم أحدا في تلك الجرائم، ولا هي توقفت أصلا.
بعض القضايا، لا تكفي الوقاحةُ للمعاندة فيه. كما لا ينفع الكذب، ولا الشتائم، ولا الشعارات الفارغة.
يفهم السوريون، كما يفهم العالم بأسره، أن النظام القائم ظل يعامل شعبه بتلك الوحشية على امتداد نصف قرن. وأعمال التعذيب جزءٌ من طبيعته. ويشعر أنه من دونها لا يمكن أن يبقى ساعة واحدة. فالاعتقاد السائد هو أن الشعب المقهور إذا تحرّر من الخوف من تلك الوحشية، فإنه لن يُبقيه ولن يُبقي أجهزته القمعية. وهي أكثر من 20 جهازا، تتسلط على رقاب الناس، كما تتسلط على بعضها البعض.
ولكن يفهم السوريون، كما يفهم العالم بأسره أيضا، أنه يعاند في الحقيقة، ليس لأنه يُنكرها، ولكنه يمارس فيها الصلف، لأنه “مدعوم” من الخارج. ومطمئن، بهذا المعنى، إلى أحد سبيلين:
الأول، أنه سوف يلجأ إليه إذا جاءت ساعة الفرار، أو حلت “تسوية” تسمح له باللجوء.
والثاني، أنه سوف يحظى بالقدرة على “إعادة كتابة التاريخ” (أي إعادة كتابة القصة) إذا ما تمكن من البقاء.
هاتان الفكرتان ربما كانتا ممكنتين في السابق، إلا أنهما باتتا من شديد السطحية في عالم اليوم.
إعادة كتابة القصة سوف تتطلب محو الصور، وإزالة كل أثر للوثائق، ووفاة كل الشهود، لكي يمكن دفن الحقيقة في مقبرة جماعية أخرى. وهذا مستحيل. كما أن النظام الدولي الراهن صار من التداخل في مصالحه بحيث أنه لا يستطيع حماية مجرمين ارتكبوا كل ذلك المقدار من الأعمال الوحشية، على طول ذلك الوقت، وبكل ذلك الإصرار.
القصة التي كُتبت بهذا المقدار من سيل الدماء، لم يعد بوسع أحد إعادة كتابتها، ولا غسلها، ولا العثور على تبرير لها، سوى أنها كانت من أعمال كائنات لا علاقة لهم بجنس البشر. وأنها من النوع الذي لا يسقط بالتقادم، ولا تنفع في تغطيته أي تسويات، ولا يمكن لدولة أن توفر الحماية الأبدية فيه.
الصور سوف تتحول إلى متحف، يزوره جيل وجيل. وأسماء الضحايا سوف يتم نحتها على جدرانه. والمتهمون سوف يخلدون بما فعلوا، لا بما يزعمون.
عندما تكتب سوريا قصتها بنفسها، سوف يُصغي الآخرون. والمصالح التي تسمح بالتغطية على الجريمة اليوم، هي نفسها المصالح التي سوف تسمح بالكشف عنها، وتسليم المتهمين إلى حيث يلقون الجزاء العادل.
علي الصراف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة