يتزامن احتدام الوضع في ليبيا مع المأزق في المفاوضات حول سد النهضة على النيل، وتمثل هاتان الأزمتان تحدياً مباشراً للأمن الاستراتيجي المصري والعربي. والأرجح بقاء الخيار العسكري مستبعداً من جهة القاهرة، لكن تطورات الأحداث وأبعادها يمكن أن تدفع إلى تغيير في العقيدة الدفاعية المصرية المتبعة منذ حقبة أنور السادات، لأن الاستسلام للأمر الواقع الذي تحاول قوى إقليمية منافسة فرضه سيشكل تهديدا آنياً ووجودياً.
ومما لا شك فيه أن منظومة صنع القرار في مصر تمر باختبار صعب هذا الصيف، ولكن الاستناد إلى البعد التاريخي للدولة والعصبية الوطنية والعمق العربي، المتمثل بالدول العربية في الخليج وسلسلة علاقات دولية منتظمة من واشنطن إلى باريس وموسكو، سيتيح للقيادة المصرية التحكم بإدارة الأزمتين كما تعوّد المصري الإبحار بصبر فوق النيل وتجاوز المشقات بتصميم، ومن نافل القول إن ذلك لا يعني إغفال رغبة البعض توريط مصر في مغامرات ودفعها إلى الرمال المتحركة، عبر تصرفات غير متأنية.
ومن الواضح أن الدفاع عن النفس بوجه الإرهاب في سيناء والمسعى الأيديولوجي لتحطيم الدولة كما الدفاع عن الأمن المائي وعن أمن الحدود يقتضي الحزم والحكمة. لكن خبيرا مصريا متمرسا يستدرك ويقول إن “مصر لا تنعم بسياق طبيعي يؤهلها لمغامرات، ودروس النهضة وليبيا تستلزم تغيير ا في المناهج واستلهام العبر وإلاّ ستزداد التحديات جسامة”. خلاصة القول عند غالبية المتابعين للأوضاع الدقيقة بأن فكرة الصدام العسكري يجب أن تكون “الطلقة الأخيرة” بعد استنفاد كل وسائل القوة الناعمة.
لكن ذلك لا يعني بالنسبة لصناع القرار في القاهرة عدم السعي لردع استباقي أو لاستعراض قوة أمام التهديد الآتي من خط سرت – الجفرة، إذ أن تركيا تبدو وكأنها غير مبالية بالسير نحو صدام مسلح مباشر مع مصر. ولهذا تعتبر المناورات المصرية الأخيرة “حسم 2020 ” والحشد في الغرب المصري تتويجا للاستعدادات في حال تنفيذ القوات المسلحة المصرية لنداء التدخل بناء على طلبات البرلمان الليبي والقبائل الليبية وبعد دعم سعودي – إماراتي وتأييد روسي وفرنسي ضمنيين.
هكذا تجد مصر نفسها في محيط جيوسياسي مضطرب وتحيط بها تحديات من كل حدب وصوب. من سيناء في الداخل إلى ليبيا في الغرب وسد النهضة في الجنوب. يعتبر المناهضون لتيارات الإسلام السياسي ودورها في الربيع العربي أن الجيش المصري نجح في حماية الدولة المصرية بالقياس للفتن والحروب في الدول المجاورة، ولكن هذا الرأي لا يتقاسمه من يعارض النظام أو من يخشى من التطورات الأخيرة في أكثر من ملف يعني مصر.
على الصعيد الداخلي تحسن وضع الاقتصاد المصري قبل زمن كورونا، لكن ذلك لا يعني الخروج من حقبة المصاعب.
ويبقى ملف سيناء الأكثر تفجرا مع استمرار الإرهاب، وبالرغم من احتمال تورط أطراف خارجية في دورة العنف، لا يمكن نكران العوامل الاجتماعية وافتقاد التنمية المتوازنة.
وعلى الجانب الآخر من الحدود تفاقم الوضع في ليبيا مع الإنجازات العسكرية التركية في الغرب الليبي، لكن القاهرة التي تراهن على ضغط دولي يحد من الجنوح التركي، تبدو حريصة على عدم الانزلاق في تجربة مثل حربها في اليمن إبان الحقبة الناصرية.
ومن التحديات الجسام أمام مصر يبرز الصراع في ما يتعلق بسد النهضة والتوتر مع إثيوبيا خاصة اذا أصرت على ملء خزان السد قبل توقيع اتفاق مع مصر والسودان. في محاولة أخيرة تحركت مصر لدى مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأفريقي وتأمل أن يكبح ذلك جماح أديس أبابا. لكن ذلك لا يبدو مضمونا ويضع صانع القرار المصري وإرادته في امتحان عسير.
تترقب ليبيا حاليا المعركة الحاسمة على مدينة سرت ذات الأهمية الاستراتيجية، وعلى بلدية الجفرة، اللتين يسيطر عليهما الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، فمن شأن معركة سرت والجفرة أن تكون حاسمة في عملية التسوية الليبية. علما بأن وزير الداخلية في حكومة الوفاق، فتحي علي باشاغا، قال في وقت سابق، إن سلطات طرابلس لن تبدأ المفاوضات مع سلطات شرق ليبيا، إلا بعد استعادة هاتين المنطقتين الهامتين استراتيجيا.
وفي هذا الصدد، يمكن أن تصبح بداية هجوم قوات حكومة الوفاق على هذين الهدفين لحظة حاسمة تحدد مستقبل الحرب في ليبيا، كما أن هجوم تركيا وحكومة الوفاق على سرت سيضاعف من خطر تصعيد الصراع. وبعد ذلك، لن تبقى الأمور بيد اللاعبين الليبيين، إنما بيد تركيا ومصر بالدرجة الأولى، هكذا ستجد مصر نفسها في مواجهة ملفات حساسة، يمكن أن تشكل تهديدا وجوديا لها، ويمكن أن تمس موقعها كدولة عربية وأفريقية كبرى. بيد أن نجاح القاهرة في إدارة هذه الأزمات يمكن أن يعزز موقعها ويحقق نقلة نوعية لدورها الإقليمي.
د. خطار أبودياب – أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة