تكاد تناقضات الحرب على سوريا في سنواتها التسع العجاف ترخي ثوبا من ضباب على البراءة الشعبية التي رسمت الملامح الأولى لثورة اجتماعية وسياسية، عادلة ومسالمة، خرجت بالهتاف والورود في مدن غوطة دمشق، قبل أن تتحوّل إلى اقتتال مجنون وعبثي تديره وتموّله دول وجماعات.
الصورة الحقيقية لظروف مقتل الطفل حمزة الخطيب تحت التعذيب على يد الأمن السوري، وهي الشرارة التي أشعلت بواكير المظاهرات السلمية في مدينة درعا ومحيطها، صفحة لن تزول من “التأريخ” الذي ترسمه الذاكرة الشعبية الخالصة من الشوائب؛ لكن من يسجّل “التاريخ” حيث طغت قوى الاستبداد والظلام والتبعية، ويعرضه شريطا دراميا، هو أمر آخر. فالمصطلحان شبه متطابقين كتابة (التأريخ والتاريخ)، إلا أنهما يفترقان تماما حال توثيق الحقائق وتوصيفها بين قاتل ومقتول وجان ومجنيّ عليه ومنتصر ومهزوم بمستويات الهزيمة والنصر كافة.
خلال فترة إقامتي الجبرية بعيدا عن الحياة المؤجّلة خلف جدران المنزل في زمن كورونا السقيم، اخترت أن أستخدم بعضا من الوقت المتطاول كشبح في مشاهدة أبرز عروض الدراما السورية الأخيرة. لفتني مسلسل “ترجمان الأشواق” لأن اسمه حمل عنوان أحد مؤلفات الشيخ الصوفي محيي الدين بن عربي، ذاك الأندلسي الجليل الذي اختار أن تنتهي حياته في مدينة دمشق، ليرقد في القلب من حيّ المهاجرين الدمشقي حيث بيت عائلتي الذي نشأت فيه.
مقام الفيلسوف الفريد و”الشيخ الأكبر” السابق لزمنه، ابن العربي، كان قِبلة أمي أيام الجمعة والأعياد؛ أما ذاكرتي الطفلة، فما زالت تحملني إلى مرقده العظيم كلما شبّت في نفسي حرائق النوستالجيا وأردتُ أن أنفلت من عقال المكان في واشنطن، لتتحرّك، وأتحرّك معها بين عرائش الليلك في باحة المقام، أدور حول بحرته الدافقة تسابيح وماء ورد، وأضيع مع غيمات بخور فضائه الصوفي المنعتق عن شرطيّ الزمان والمكان.
قرّرتُ مشاهدة حلقاته الثلاثين جرعة واحدة في محاولة لأضع يدي على بعض من المشهد البصري من وجهة نظر أهل الدراما الشامية الذين ما زالوا قادرين على التحرّك في المساحة الأمنية الضيقة في سوريا، ولأرصد ما اجتهدوا فيه لتوثيق حشرجات دوران حجر الرحى الذي ما انفكّ يطحن السوريين كافة، وبلا استثناء، لكن بدرجات وصور مختلفة، سواء على أرضهم الأم، أو على أرض الآخرين في منافيهم القصيّة.
لم تدهشني التناقضات التي ساقها النص، فهي فرع من التناقض الأصل الذي أصاب الحالة السورية في المزالق التي اندفعت إليها خلال سنوات الدمار الشامل؛ فمن مشهد لمقام ابن العربي في قلب دمشق وقد تحوّل إلى ملتقى سري لأمراء الحرب من الأطراف المتنازعة يديره وسيط “مصالحات” هو طبيب صوفي حاليا، وشيوعي أسبق، مرورا بمشهد رجل الأمن الذي بدا شخصا طيّبا مطواعا أهدافه البشرية متاحة لكنها تتحرك بأمن وسلام دون أن يتعرّض لها بأي أذى أو حتى تعطيل لحركتها، تكرج سبحة حلقات الرواية؛ أما حوادث الخطف والتدمير والاغتيال فتديرها حكما “المعارضة” التي هي مسلّحة بالمطلق، وتنقسم حسب كاتب النص بين إسلامي متطرف أو عسكري منشق، لا ثالث لهما.
الطرف الثالث في المعادلة السورية صاحب الحرية – العقيدة والكلمة – الرصاصة، عرّاب الموقف السياسي المستقل الداعي للتغيير واستعادة سوريا إلى دورة العصر، ابن ذاك الخروج الشعبي السلمي الكبير في العام الأول من الثورة قبل أن ينحرف المشهد إلى فوضى اقتتال دموي تختلط فيه الهويات والغرائز، فهو مغيّب تماما.
والمقتلة السورية يختزلها مشهد بانورامي متكرر للدمار الذي أصاب المدينة (على أيدي العملاء من اليسار السياسي المتهالك، والعسكر المنشق، وأمراء الحرب من المتأسلمين) كما يحلو لضابط المخابرات “الوطني” أن يحدّد هوية أهدافه الأمنية ضمن السياق الدرامي.
فإذا كان تاريخ الشعوب هو رواية الطرف المنتصر على عدو قادم من خارج الحدود، فهذا الشرط منفي تماما في الحالة السورية، إذ لم يحدث أن سجّل التاريخ أسطورة انتصار حاكم على شعبه! ومن هذا المنطلق تسقط نظرية انتصار الأسد وسلطته، وتسقط أوراقها، وقد كتب أصحابها التاريخ على طريقتهم وكما شُبّه لهم.
قد تكون العودة إلى الحالة الصوفية للثورة في براءتها الأولى ورؤاها الطموحة متعثّرة لأسباب عديدة من أهمها ما ذكره رياض الترك، الشيوعي المخضرم، والمعتقل السياسي السوري في عهدي الأسد الأب ثم الابن لمدة 18 عاما في زنزانة انفرادية تحت الأرض، لمجرد رفضه إدانة الحركات الإسلامية كما طالبه حافظ الأسد.
في تصريح نادر له لتلفزيون “بي.بي.سي’” البريطاني، وفي نقده لأول جسم سياسي معارض تأسّس خارج سوريا بهدف تحقيق أهداف الثورة في التغيير الديمقراطي المنشود، قال “المشكلة في المجلس الوطني السوري الذي تشكّل إثر اندلاع الثورة وقد كنا واحدا من كياناته السبعة المؤسِسة، أن جماعة الإخوان المسلمين الشريكة في المجلس، والتي يفترض أن تكون جزءا من حركة الشارع بمعناها الواسع، حاولت تسليط الضوء على الجماعة أكثر من الحركة نفسها”. وأردف “وجدنا أن الإخوان المسلمين لم يلتزموا بالأهداف الشعبية والديمقراطية للثورة بل رجحوا كفة توجههم الديني، وذهبوا إلى العنف”.
أما النخب السورية من العلمانيين والشخصيات التنويرية الليبرالية التي انتظمت ضمن المؤسسات السياسية السورية، أو المستقلة التي آثرت العمل خارج أي تنظيم معارض، فلم تتمتع بأداء أفضل من شركائها في التغيير الديمقراطي من الإسلاميين.
المعضلة الأساس التي وقع فيها التمثيل السياسي السوري المعارض كانت في فقدان الثقة بين أطرافه بسبب غياب أدنى درجات الشفافية والمتابعة لجهة الأداء البيني الداخلي أو في أشكال التواصل مع الأطراف الخارجية، ناهيك عن حال التشتت في الرؤى والتوجّه والمنافع السياسية التي لم تكن في غالبيتها لتصبّ في خانة المصلحة الوطنية العامة، بل اُختزلت في أحسن الحالات ضمن مآرب خاصة وتنافسية هي أقرب إلى حملات الترويج الانتخابي لأشخاص بعينهم منها إلى عمل الفريق الذي يُفترض أن ينأى بنفسه عن المصالح والإرادات الفردية.
فصل المقال يكمن في ذاك الاستحقاق الذي أصبح خلف الأبواب في دمشق. فالاستحقاق الانتخابي الرئاسي ليس خيارا يمكن المناورة به، بل هو فرض عين دستوري سوري، وحاجة دولية غدت ملحّة لحلفاء الأسد قبل مناوئيه. فروسيا المتعثرة اقتصاديا إثر انهيار أسعار النفط لم تعد قادرة على تحمّل الأعباء البشرية والمالية لعملياتها العسكرية، وإيران، المحاصرة ومهدودة الاقتصاد، لها أولوياتها في إنقاذ ما يمكن إنقاذه داخل حدودها هذه المرة، وقانون سيزر الأميركي سيدخل حيز التنفيذ الفعلي قريبا ليطبق القبضة على عنق كل من تلطّخت يداه بدم الشعب السوري، وكل من دعم أو شارك في حملات العنف ضد المدنيين، دولا كانت أم أفرادا.
أما “آنا”، تلك الصبية الجميلة المخطوفة في دراما المشهد، ابنة جيل سوري كامل مخطوف أيضا وينتظر بشغف مستقبلا آخر لا يشبه ماضيه، فستخرج من نفق الحرب إلى مساحة الحرية راجعة إلى بيتها السوري ولو أمسى كومة من حجار.
مرح البقاعي – كاتبة سورية أميركية – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة